طب نحكي حكاية حلوة تعطي شوية أمل وسط الأشلاء والجثث والكراهية واليأس..
...
راجل كبير تجاوز الستين.. مسكين مالوش حد، مالوش بيت.. والفقر بيخلي كل الناس غرباء.. بيبات في الشارع أحيانا، ويبات في جراج أو بدروم عمارة أحيانا أخرى.
عنده جلبيتين، بيغسلهم دايما عشان ميبنش متسول.. ويبيع أي حاجة، يجيب سندوتش فول وسجاير فرط.. بيعتبر السجاير الونس الوحيد.. بيقولي، "أصلي مصاحب السيجارة يا بيه.. الناس هنا غلابة ومحدش فاضي يسمع هم حد.. كل واحد بيشتغل ويحوش الربع جنيه كأنه في ليبيا.. الناس عايشة غريبة في بلدها."
ثم يلقي السجارة بعد آخر قبلة تعطيه الحياة ويعطيها الموت..
وأنا معدي بشتري علبتين مهلبية و كريم كراميل.. وأقعد جمبه على الرصيف ناكل سوا.. و امشي.. وانا حاسس اني مسئول عنه..
أنظر في عينيه وأتذكر كلمات فاروق شوشة:
ألقاك في عصف الذهول المر..
تجتاز الفجاج السود.. مخبولا شقيا..
ما الذي سدد في قلبك سكينا..
وبعينيك سؤال أخرس..
الدمعة.. وحزن أبدي..
يوما ما كان شابا قويا، ربما وسيما.. ربما أحب فتاة فقيرة مثله.. وربما واعدها وأخلف.. دائما الرجال تخلف وعودها.. هناك شاب آخر أقل فقرا قنصها منه.. لتنتهي تلك الحكايات العادية، لتزيدنا مرارة وبؤسا، وتدفن ضمن أسرارنا الصغير في لحد من خلايا الذاكرة.
أخلو إلى نفسي.. أحاول التدخين كمدخن فاشل.. أسعل وأبصق وألعن رائحة التبغ المحترقة.. أنهمك في الجريدة، وأشعل مارسيل خليفة..
تصبحون على وطن..
من سحاب ومن شجر..
وأسرق وقتًا لكي يسرقوني من الوقت..
هل كلنا شهداء ؟؟
وأهمس : يا أصدقائي
اتركوا حائطًا واحدًا ، لحبال الغسيل
اتركوا ليلة للغناء ، أعلق أسماءكم أين شئتم
فناموا قليلاً وناموا على سلّم الكرمة الحامضة
لأحرس أحلامكم من خناجر حرّاسكم
وانقلاب الكتاب على الأنبياء
وكونوا نشيد الذي لا نشيد له
عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء ، أقول لكم:
تصبحون على وطن
من سحاب ومن شجر. "
وينتهي اللحن وأنا في عالم آخر.. أفيق.. وأرشف قهوتي.. باردة.
من اسبوع كتبت حواري مع ست مسكينة.. جالي اتصالات كتير لكفالتها، ولكن المرأة كانت قد مشت دون أن أعلم لها جهة اتصال.. عرضت على أحد المتطوعين حالة الرجل العجوز.. فرحب وأبدى موافقته لتوفير قيمة إيجار شهري لسكن له.
قابلته وأخدت منه الفلوس.. وروحت أدور على الراجل. وجدته على رصيف جانبي في منطقة بسيطة، يدخن سيجارته التي لا تنتهي، قلت له:
في حد مستعد يدفع إيجار مكان ملائم تبات فيه.
لم يصدق.. لوهلة ظنني أمزح، ربما أختبر ثباته.. لكنه رأى الفلوس في يدي.. أخذها.. وبكى.. قبلها مرتين ووضعها على عينيه.. هدأ قليلا.
قال لي.
مش مهم الفلوس ولا البيات.. المهم ان في ناس محترمة واخدة بالها من الغلابة.. كفاية انكم اهتميتوا بيا وسألتوا عليا.. امبارح كنت جعان.. فكرت أسرق.. بس استغفرت ربنا وقولت لو هموت من الجوع. والنهاردة ربنا رزقني من الحلال. انا مكنتش بصلي كتير.. احيانا كدة.. من النهاردة مش هسيب فرض. عشان ربنا كبير.. ويستاهل الشكر."
بضع مئات من الجنيهات قد تمنح للإنسان السكن. والأمن الإنساني. والإيمان بالله.
ربما لذلك كان الرسول يستعيذ من الكفر. والفقر.. وكأن الفقر باب كبير للكفر.
الإحصاءات الدولية تقول أن نصف العالم يستمتع بكل الخيرات والنصف الثاني يعيش على الفتات.. ليست مشكلة ندرة الموارد ولكن مشكلة سوء التوزيع.. مشكلة الجشع والأنانية وحب الزيادة.. لو كل واحد اهتم بواحد فقط من هذا النصف المقهور تنتهي كثير من مشاكل الفقر.
من المرات القليلة التي تحدث فيها القرآن بأسلوب حاد. رادع. معاتب لرسول الله على تصرفه، عندما ضاق ببعض الفقراء الذين لا مأوى لهم سوى المسجد. فيتعبدون ويأكلون وينامون.. كأول مؤسسة إيواء للمعدمين.
شعر الرسول ببعض التضرر منهم.. وحاول من طرف خفي حثهم على المغادرة بعد أن طالت المدة.. فنزلت الآيات.. أنه لو فعل يكون من الظالمين.
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)
الله أنزل قرآنا يتلى من السماء من أجل هؤلاء الفقراء.. هذا هو التشريع، وتلك هي أصول الدين وأولويات الرسالة..
صرت أمشي في شارعنا مرفوع الرأس. فلا يوجد فيه من يبيت على الرصيف..
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق