الصحابة بين البدعة والاجتهاد مع النص
"لا اجتهاد مع نص.. أنت مبتدع.. هذا أمر لم يفعله الرسول.. فهم سلف الأمة."
معلبات فكرية أفسدت قدرتنا على التواصل المباشر مع دين الله بما فيه من عمق ورقي وتقدمية.
الصحابة الأوائل هم من كسروا تلك الكلمات بامتياز.. ولم تنتشر إلا في عصور متأخرة من الاستبداد السياسي التي لم ترد لعقول المسلمين ابتغاء المنطقية و الثورية والتحرر، وأن يظلوا أسرى لفهوم نمطية تقليدية بالية.
دعونا نسرد مواقف من حياة الصحابة تثبت كيف تعاملوا مع الثوابت والمتغيرات في الدين.. والدنيا.
*
عثمان بن عفان..
- نهى عن جمع الزكاة وأوكلها لكل فرد..
اعتاد المسلمون منذ عهد رسول الله على أن الحاكم يجمع الزكاة من الناس، ثم يعيد توزيعها على مصارفها المنصوص عليها في القرآن.. هكذا فعلها الرسول و أبو بكر وعمر.
والزكاة يختلط فيها حق الله وحق العبد.. فهي ركن عبادي مجاور للصلاة في آيات القرآن، لكنها في ذات الوقت تعود بالأثر المباشر على الطبقات الاجتماعية الأقل.. وقيمتها ضئيلة حتى لا يخرجها الغني عن بخل أو كراهة نفس.. وكان الرسول ينهى المختصون بجمعها عن التعرض لكرائم أموال الناس.. أي لا يأخذون المال الجيد حتى لا تكون شبهة مصادرة. مراعاة مشاعر الفقير بالتكافل. ومراعاة مشاعر الغني باحترام حرمة المال الخاص.
وكانت الزكاة رمزية الانتماء للدولة.. مثل دفع الضرائب في المجتمع الحديث. الذي يعد التهرب منها جريمة تخل بالشرف. ولذلك قاتل عليها أبو بكر.
ماذا فعل عثمان من بعد ابي بكر وعمر؟
وجد أن الفساد قد انتشر في جمع أموال الزكاة من دفع رٍشا واستغلال واستيلاء على المال نظرا لفساد بعض الذمم.. ولم يجد آلية ملائمة لمراقبة هؤلاء وردعهم. فوجد أن المصلحة تستدعي التوقف عن جمع مال الزكاة وتركها لأصحابها.. هم وربهم.. طالما كان مالا مختفيا، أما المال الظاهر فمن حق الدولة التدخل فيه.
تخيل.. عثمان يوقف جمع الزكاة على عكس فعل الرسول.. وعلى عكس إصرار أبي بكر الذي وصل إلى حد القتال.
- الآذان الثاني في الجمعة..
هذا الأمر قد يكون جديدا.. صلاة الجمعة.. على وجه الخصوص آذان الجمعة. عاش رسول الله عليه الصلاة والسلام ومات وآذان الجمعة آذن واحد.. وكذا فعل ابو بكر وعمر.. وعلى عهد عثمان رأى أن الناس قد انتشرت وغلبها البيوع وحب الدنيا.. ووجب تنبيههم للجمعة لما فيها من فضل وخصوصية.. فابتدع آذانا جديدا للجمعة غير الآذان الأصلي المفروض..
وبذلك صار للجمعة آذانان.. آذان فرضه الإسلام، وآذان فرضه عثمان، من دون وحي أو تشريع سماوي أو تلقي من رسول الله.
الصلاة أمر تعبدي. توقيفي لا يجوز القياس فيه كما علمنا الفقهاء الأوائل.. لكن عثمان لم يتقيد بذلك ورأى انه من الملائم زيادة شيء جديد على شعائر الجمعة لم يأت بها الرسول.
لو فعلها أحد الآن فيما هو أقل لقتلوه رجما بالحجارة.
- توحيد الناس على قراءة واحدة..
لم يجمع عثمان المصحف كما هو شائع.. الجمع تم عقب موت الرسول في عهد أبي بكر. وهذا نحكيه بعد قليل. لكن ما فعله عثمان هو استبعاد كافة القراءات العربية التي كانت متاحة ومباحة منذ عهد الرسول، والاتفاق على قراءة واحدة للقرآن يجمع عليها الناس.
وفعل هذا عندما جاءه الخبر أن الناس قد اختلفت في كتاب الله اختلافا كبيرا أحدث اضطرابا بينهم. وأنكر الناس بعضهم على بعض درجة وصلت حد الاقتتال.
فأمر رجاله بجمع كافة نسخ المصاحف من أيدي الناس. وكانت قليلة بحكم الزمن. ثم قام بإحراقها !! نعم لم تقرأ خطأ.. عثمان حرق المصاحف من أيدي صحابة رسول الله.. ثم أعاد نسخ مصحف واحد بقراءة واحدة يجتمع عليها الناس درءا للخلاف اللفظي أو السماعي..
عثمان خرج عن سنة الرسول التي أقرها للناس بتعدد القراءات.. وألزمهم بقراءة واحدة.. وحرق المصاحف.. ولم يتوقف عند حدود زمن الرسول بل جاوزه باجتهادات جديدة تناسب الحدث والواقع والتحديات..
هكذا فعل عثمان من تغيير وتطوير وبدع. تختلف عما درج عليه الرسول وخلفائه من بعده.. هذا ولم يمر على موت الرسول ربما عشرين سنة.. فما بالك بعد موته بألف وزيادة.
*
أما عمر فأمره يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال..
لكن نورد حوادث قليلة للاستشهاد على أن هؤلاء الرجال كانوا يتجاوزون الآراء الجزئية الصادرة عن الرسول إلى غيرها، لو تغيرت الظروف وتطلب الواقع اجتهادا جديدا.. وأنهم لم يلتزموا بحرفية النص. بل بمقاصده وعلاته وعموم غايته من تحقيق المصلحة.. وأنهم أول من اجتهد في وجود نص.
- طالق بالثلاثة..
أورد البخاري من حديث ابن عباس في باب الطلاق.. أن الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاثة واحدة. فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر جعل الله لهم فيه أناه.. فأوقعه عليهم.
يعني كان الصحابة يرمون يمين الطلاق بلفظ ثلاثة.. فكان على عهد الرسول وابي بكر يقع طلقة واحدة.. فجاء عمر ورأى أن الناس قد استعجلت فألزمهم به. فصار الطلاق الثلاثة بلفظة واحدة يقع ثلاثة.. على خلاف ما حكم به النبي. وطبقه أبو بكر.
أحكام الطلاق من الأحكام التي أوردها القرآن بشكل حاسم و يقيني.. وهي من المواضع الأربعة عشر في القرآن التي استخدم الله معها مصطلح "تلك حدود الله" .. فكيف لعمر أن يتدخل في حدود الله ويخالف ما فعله الرسول، من سنة عملية، ويصدر تشريعا جديدا يناقض ما حكم به الرسول !
أسمعك تسألني وما موقف التراث الإسلامي من مذاهب وفقهاء وصحابة وتابعين لما فعله عمر.. هل أنكروا عليه ؟ هل زايدوا عليه ؟ هل اتهموه بتعمد مخالفة الرسول وأنه يعادي الشريعة ؟
كلا..
الغريب أن ما ذهب اليه عمر . على خلاف الرسول . هو ما استأنسه كثير من الصحابة وحكاه التابعون . وصار معتمدا في المذاهب الاسلامية الأربعة لحد وصل درجة تقترب من الإجماع.
لا تستغرب لقد كانوا أكثر استنارة وفهما ورحابة عقل مني ومنك.. لو تريد اتبعاهم فتلك كانت سنتهم.
- العاقلة..
في الإسلام تقع الديات في القتل العمد أو القتل الخطأ وكافة الغرامات الكبرى على عاقلة الجاني . وهم أهل بيته . أو قبيلته . كنوع من الاشتراك لدفع استحاق مالي لقريب لهم؛ ليصير كل واحد في الأسرة مسئولا عن غيره قدر استطاعته، وليحثه على تجنب الخطايا لأن الضرر واقع على الجميع.. نظام بديع في المسئولية والتواصل والمشاركة الجماعية.
جاء عمر وخالف نظام العاقلة.. وجعله وفق محل الإقامة المدون في الدواوين.. حيث قام بادراج اسم المواطنين في المدينة في سجل كبير لعمل إحصاء منظم للتعداد والحالة الاجتماعية وفق مكان سكناهم.. وجعل نظام التعاقل ينتقل من القبيلة إلى الجوار.. أهل المنطقة الواحدة. الشارع الواحد. هم من يتعاقلون فيما بينهم.
وكان ذلك تطور كبير في النظام الاجتماعي والثقافي بين الناس.. بالانتقال من الانتماء القبلي إلى الانتماء المحلي القائم على الأرض أو السكن أو الجوار.. وهي بذرة أولية لفكرة المواطنة ونشوء عنصر الإقليم الذي يشكل أحد ثلاثة عناصر في الدولة الحديثة.. شعب / اقليم / سلطة حاكمة. وأن مسئولية وانتماء جماعة من البشر يجمعهم المكان أكبر من مسئولية وانتماء المشتركين في الرحم أو العقيدة.
وهو اختلاف جزري عما فعله الرسول من العقيلة في الأسرة..
- المؤلفة قلوبهم..
قال الله (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين..) 26 التوبة.
والمؤلفة قلوبهم هم زعماء القبائل الذين كان الإسلام يستميلهم حتى لا يبادرون بأي عمل عدائي ضد الإسلام أو التحالف مع المشركين لقتاله. جاء عمر وقال، لم يعد الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب، فقد اشتد عوده وظهر بيانه.
وبكل بساطة عطل مصرف من مصارف الزكاة دون أن يتوقفوا كثيرا عن مدى صحة ما فعله.. إنهم ديناميكيون سريعو الحركة والفهم وتقبل التغييرات حتى لو كانت تغييرات دينية.. بعكس ما نفعله نحن من جدالات عقيمة حول أمور أقل قيمة.
*
وماذا عن أبي بكر..
كان الوحي إذا نزل على الرسول يعجل بترديده وراء جبريل يحفظه في صدره ثم يفضي به إلى أعضاء مكتبه المتخصصين في التدوين الفوري. جعلهم قريبون منه لإتمام هذا العمل بدقة وسرعة.
ومات الرسول والقرآن قد اكتمل تدوينه لحظة بلحظة.. لكنه كان مفرقا.. على الجلود وسعاف النخيل واللخاف "الصخور" وصدور الرجال.. لم يكن شكل المصحف الذي بين يديك الآن عزيزي المسلم هو المصحف التقليدي بين يدي الصحابة الأوائل.. بل قصاصات متفرقة.
يعني المصحف نفسه بدعة لم يفعلها الرسول ..!
وبعد أن مات كبار الحفاظ، ورد على ذهن عمر تجميع تلك الصحائف المتناثرة بين دفتي كتاب واحد.. يالها من فكرة عبقرية في وقتها. فذهب وأعلم بها الخليفة أبا بكر.. فتردد في البداية ثم وافق. فذهبوا لكبير مكتب متخصصي التدوين، زيد بن حارثة.. فرفض زيد رفضا باتا، وقال بكل وضوح: كيف أفعل أمرا لم يفعله رسول الله !
تلك نقطة مهمة.. عندما تأتي بأمر جديد يردون عليك بذات الجملة.. لا تزد في الدين ما ليس منه.. أو لو كان خيرا لسبقونا اليه وأمر به رسول الله.
ولكن أبا بكر راجع زيد وأقنعه أن جمع الصحائف في كتاب واحد خير كبير.. و اقتنع زيد.
لك أن تعلم أن هذه النسخة الأولى المجمعة حفظت عند حفصة. أم المؤمنين وبنت عمر ابن الخطاب.
تخيل نسخة واحدة لكتاب الله، كان من المفروض أن يكون الأمين عليها رجل قوي شجاع فارس ليزود عنها وقت الشدائد.. أو أن توضع لدى الحاكم نفسه.. أو تصاغ هيئة من كبار الصحابة مسئولة عن حفظ المصحف.. أو مجموعة من الفرسان الأشداء للقيام بالمهمة.
لم يحدث.. وكانت الأمينة على أول نسخة لكتاب الله. وسط مجتمع ذكوري. امرأة.. وياله من شرف انساني وثقافي وديني.
*
نختم بحديث في صحيح مسلم 1791/ كتاب الأضاحي.. عن عائشة:
دف الناس من البادية إلى مدينة الرسول يوم الأصحى يشهدوا معه العيد.. قوم كثير مساكين ملأوا طرقات المدينة.. فقال الرسول: "ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي."
فلما كان بعد ذلك من الأعوام التالية، قال الناس للرسول قد كنا ننتفع من أضاحينا. فقال، وما ذلك..؟ قالوا، كنت أمرتنا ألا ندخر فوق ثلاث..
فقال، إنما نهيتمكم من أجل الدافة "المساكين الذين قدموا" .. فكلوا وتصدقوا وادخروا.
الحديث يقول، أن مساكين جاءوا مدينة الرسول يوم عيد.. فأمر الرسول صحابته ألا يدخر أحد من لحم أضحيته أكثر من ثلاثة أيام والباقي صدقة.. وكان الرسول يفعل من أجل المشاركة الجماعية في إطعام الضيوف.. ففهم الصحابة أنه أمر مؤبد ملزم لهم.. وجاء العام التالي يشكون من صعوبة الأمر وأنهم يريدون الادخار أكثر من ثلاث.. فلم يفهم لماذا لا يفعلون.. فذكروه بأمره في العام السابق.. فقال لهم إن هذا لأمر طارئ وافد على الأصل العام.. فادخروا كيف شئتم . وتصدقوا.
الرسول يقر هنا أن أوامره ونواهيه لها علة . ولو زالت العلة زال الحكم . حتى لو بقي النص . فلا يصير ملزما . لدرجة أنه اندهش كيف لم يفهم صحابته أنه كان حكما مؤقتا متعلق بملابسات وظروف واقعة محددة لا يجوز تعميمها.. كان يظن أنهم سيفهمون دون أن يطيل الشرح. لكنهم تحفظوا وسألوه، فوضح لهم.
الرسول لا يريد انقياد أعمى خلف النص.. يردك قادرا على فهم الغايات والظروف والمتغيرات.. وأن النص يجب أن يخضع للتحليل والتفكير المنطقي. وأن النص الذي يفقد منطقيته يجب هجره.. حتى لو كان نصا نبويا.
وهنا يصح حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الموجود لدى الإمام مسلم، عن رافع بن خديج، "وما أمرتكم به من رأيي فإنما أنا بشر"..
وفي حديث ابن عباس عن رسول الله، "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب." صدق رسول الله.
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
البروفايل الشخصي
الصفحة الرسمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق