من أنقذت موسى النبي الرضيع، كانت فتاة. أخته. عندما تتبعته إلى أن وصل ليد زوجة فرعون ودلتهم إلى أهل بيت يرضعوه بعد أن رفض المراضع من قبل.. الآية تتحدث عن الأم والأخت كغرفة عمليات منعقدة تهتم بشئون طفل يصير نبي. ولم يذكر شيئا عن أبيه أو أعمامه أو أخواله.. فالنساء تقوم بعملها بكفاءة أيضا.
(وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون. وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)12 القصص.
نعم لم تكن نبيه، لكنها كانت من ورائهم تحفظهم..
*
عادة يتحدث القرآن عن الملوك بشكل سلبي. طغاة مستبدون يقهرون شعوبهم ويفسدون في الأرض. وعندما تحدث عن ملك رشيد عاقل. كنموذج. كانت امرأة. ملكة سبأ. بلقيس. رغم أن الملك وفقا لسياق التاريخ يحتكره الرجال. فجاء القرآن يكسر السياق ويحكي هذه المرة عن بلقيس.
وجدت بلقيس رسالة من سليمان تدعوها إلى دين جديد لم تسمع به من قبل.. فجمعت قومها للاستشارة دون أن تنفرد باتخاذ القرار..
(قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون).32سبأ
رد المستشارون (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد).. فكان ردا مندفعا صداميا.
لكنها كانت أكثر هدوءً وأنفذ بصيرة،
(قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)
تحاول قدر المستطاع تجنب الحرب والدخول في صراعات تهلك قومها.
وفكرت في حيلة.. أن ترسل هدية مالية كبيرة لترى رد فعل سليمان. هل هو طامع في خيرات مملكتها، أم أنه صادق في دعوته إلى الله.
(وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) 35سبأ
وعندما ذهب الرسول يحمل الأموال لسليمان، غضب واعتبرها إهانة، وتوعدهم بجيش كبير.
فلم تنجر إلى الحرب، بل قامت الملكة الممتلئة بالحكمة والصفاء النفسي بعقد زيارة ملكية لسليمان، لتطالع الأمر بنفسها، وتتحدث مع سليمان مباشرة، لتفهم أكثر، وتحاول إيجاد صيغة تفاهم قبل أن تنخرط في عداء لا قيمة له.
القرآن يروي سيرة امرأة.. ملكة.. تمتلك عقلا متزنا. وهي كافرة..
(وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) 43 النمل.
فلم يقل أن النساء أقل شأناً من الحكم. رغم أن ذلك كان من آلاف السنين قبل أن تنضج البشرية بالقدر الكافي. ولم يمنعه كفرها من أن ينقل طريقة حكمها الرشيد بشكل منصف ويمتدح تصرفاتها الحكيمة. والحكم في اللغة من الحكمة.
// في إشارة قوية إلى أن الحكماء العاقلون، الميالون للمسالمة، هم أقرب الناس للهداية. حتى لو كانوا كافرين.//
ثم، دخلت على سليمان القصر، وكانت أرضه من البلور، فظنته لجة. ماء غزير. فرفعت ردائها وكشفت عن ساقيها. مخافة البلل.. قيل لها هذا صرح ممرد من قوارير. فعلمت أن ما لدى سليمان من قدرات خارقة تتجاوز قدرة البشر، وأنه دليل نبوة لا لبس فيها.. فأسلمت.
لاحظي أنها رأت بعينيها أولا كي تقتنع، فلا يكون إيمانا أعمى.. وأن سليمان حاول أن يصنع أفضل ما لديه ليكون دليلا واضحا يخاطب عقلها وانبهارها.. إنه يعلم أنها ملكة تفهم جيدا حدود البشر من تقدم وقدرات. وأنها تستطيع التمييز بين النبوة والشعوذة.
(قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها )44 النمل.
لاحظي السردية الروائية للقرآن. وتوقفه أمام تفصيلة انسانية رقيقة. امرأة ترى في الارض ماء فترفع ردائها مخافة البلل، فينكشف ساقيها.. بعض المتنطعين لو قرأ تعبيرا كهذا في رواية قد يتهمها بالابتذال. أو الخدش. أو عدم الحفاظ على الحشمة.. القرآن رواها ولم يتوقف عندها. لم يتوقف عند اسئلة ساذجة، مثل، هل ساق المرأة عورة؟ هل نظر سليمان لساقها أم غض بصره؟ هل كانت جميلة السيقان؟ .. الخ.
القرآن يقول لا تكن مهووسا تافها. وأن طبيعة الحياة قد تكشف عن ساق امرأة بشكل تلقائي دون التوقف عند ذلك.
وكانت النهاية أن قالت،
(رب إن ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)44النمل.
لم تكن متعنتة، متعالية، مصابة بالغطرسة والرغبة في الإنكار والدخول في صدام أحمق لا طائل من وراءه.. هكذا الملوك / الملكات الذين يريدهم القرآن.
وكأن الرواية تقول أن ملكة سبأ، امرأة كاملة العقل. والدين. والحكمة.
للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق