محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

صناعة الجهل

وينسى الكثيرون أن مشاهد حياة كل يوم هي المسودة الاولى للتاريخ أكثر من الاوراق المحفوظة في الخزائن تحت الاقفال والاختام ."

 

*

 

أثناء السفر وفي وسائل المواصلات دائما أمر بعيني بين الركاب لأختار أضألهم جسدا ليكون رفيقي في الطريق .. دائما أحمل لاب توب وكتاب وبعض الورق والقلم بين السبابة والابهام .. وضئيلو الجسد يساعدون في مجلس أكثر راحة .

 

كان هذا الفتى النحيل صيدا مناسبا بالنسبة لي , جلست وتأهبت السيارة للانطلاق .

 

كل واحد منا دوما يحمل قصة تستحق الرواية , والإنصات يجعلنا نتعلم الكثير .. نحن محدودون جدا بواقعنا الفيزيائي والبدني , وحياتنا القصيرة لا تسمح لنا أن نتعلم كل شيء , ولذلك يجب أن تضيف لحياتك حيوات اخرى .. بقراءة التاريخ أو الاستماع الى الناس .. فحكاويهم تاريخ لم يكتب بعد .. بعد ألف سنة سيحوله احدهم الى كتاب فخم يباع بمبلغ باهظ .. دعونا اذن نقرأ التاريخ قبل أن يقرر السادة المحترمون كتابته !

 

لهذا اتحدث دوما للجالسين الى جواري , وتحدثت الى الفتى , اسمه احمد , في السابعة عشرة من عمره , ملابسه بسيطة وصوته خفيض وملامحه هادئة .. لم يكمل تعليمه وترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي .. الكارثة أنه لا يجيد القراءة والكتابة !!

 

كيف وصل الى الصف السادس اذن ؟؟ ماذا كان يفعل لمدة ست سنوات في المدرسة ؟؟ تلك مسألة تلخص الكثير من مشاكل مصر .

 

ربما يفسر ذلك تصريح وزير التربية والتعليم السابق احمد جمال الدين موسى والذي قال أن احد اهم اهداف الوزارة ان يتخرج تلامذة الدبلومات الفنية ( صنايع / تجارة / زراعة) وهم يجيدون القراءة والكتابة !! حينما يكون هدف وزارة التربية والتعليم الذي تصبو له بعد 12 سنة يمضيها الطالب في مدارسها أن يستطيع الإلمام بالقراءة والكتابة .

 

ربما يفسر ايضا أن الامية في مصر تتجاوز نسبة 25% من الشعب .. تلك نسبة مخيفة لوطن يريد أن يتقدم للأمام .

 

أعود الى احمد .. انه يعمل نقاش منذ صغره , ولا يعرف اي شيء عن الحياة سوى العمل .. إنه ولد طيب قليل الخبرة معدوم المعرفة ويسهل تحويله الى اي شيء .. لو وقع في يد جماعة متطرفة فقد يكون ارهابيا .. ولو وقع في يد مجموعة من البلطجية سيصير لصا أو تاجر مخدرات .

 

هؤلاء هم وقود التطرف الديني والجريمة , غير المتعلمين الطيبين , الذين يسهل تشكيل عجينتهم على أي هيئة . وتلك نسبة غير قليلة في مصر .. انها تعد بالملايين .

 

*

قديما كانت الوسيلة الوحيدة لنشر الكتب هي النسخ اليدوي , وتلك طريقة مرهقة وبطيئة التأثير والانتشار , لذلك لم يمتلك تلك النسخ سوى طبقة قليلة من رجال الدين أو العلماء أو رجال السلطة , بينما الجماهير محرومة من المعرفة .. وبعد ظهور المطبعة التي تنتج آلاف النسخ في وقت قصير , اختلف الامر .

 

كان لظهور المطبعة دور بالغ الاهمية على التطور الحضاري والديني في أوروبا في القرن السادس عشر .. فكان الكتاب المقدس مملوك لبعض الاثرياء الذين يستطيعون الدفع , ولدى الكنيسة الكاثوليكية , وكانت الناس غارقة في الأمية الدينية التي تجعلهم عبيدا للسلطة الدينية التي تمتلك النص وفهم النص وأسرار النص . وكان ذلك مسوغا للاستبداد والقهر الذي مورس من قبل القساوسة بالتحالف مع الارستقراطية الاقطاعية والملوك .

 

وحينما بدأ مارتن لوثر في الثورة على تقاليد الكنيسة وما تورطت فيه من آثام بدأ نهضته بالاعتماد على الآلة الطابعة , بأن وفر آلاف النسخ من الكتاب المقدس ووزعها على الناس , ووزع أوراقا تحوي فهوما ميسرة تبين لهم حقوقهم .. تلك كانت خطوة أولية للتخلص من المجتمع البطرياركي "الأبوي" السلطوي المستبد والذي استخدم الأمية والجهل لزيادة إحكام سيطرته على الناس .. باسم الدين أو باسم الاقطاع .

 

وبعد أن امتلك كل انسان كتابه المقدس , وصار له الحق في القراءة المباشرة فيه , والتعرف على حقوقه والاعتماد على ملكاته الخاصة في فهم النص , بدأ عصر التنوير والحريات , وكان إيذانا بصعود برجوازية وسيطة فجرت قلب أوروبا بثورات متعاقبة رفعت شعارات انسانية مثل " المساواة والايخاء والحرية " .

 

وهنا كانت الطابعة - المتمثلة في العلم - والتي تم تسخيرها في احداث نهضة في الفكر الديني , هي سبيل عصر الرينيسانس .

 

تأخر وصول هذا الاختراع الى مصر لمدة غير قليلة بلغت ثلاثة قرون , فلم تعرف مصر المطبعة إلا بقدوم الحملة الفرنسية في مطلع القرن التاسع عشر .. وبعد أن رحلت الحملة قرر محمد علي أن يعقد صلحا مع القوة التي كان يحاربها منذ اشهر قليلة , فقرر الاعتماد على منجزات تلك الحضارات وأرسل خريجو الازهر في بعثات متتالية للتعلم .. وكانت نهضة جديدة تعشها مصر .

 

*

عدم المقدرة على الكتابة في اللغة الانجليزية يعني literacy , وهو مصطلح قريب من مصطلح يعبر عن الأدب literature ومصطلح الأدب يشيرالى الكتابة ذات القيمة , وليس مجرد القدرة على الكتابة .. ولذلك يكون الادق في نقل كلمةliteracy الى العربية هو الكتابة ذات القيمة وليس الأمية .. فقد يكون الشخص قادرا على نقش الحروف ولكنه لا يملك اي معرفة عن اي شيء .

 

تحركت أوروبا على عدة مراحل .. محو الامية بتعلم القراءة والكتابة , ثم محو الامية باكتساب المعرفة , ثم المرحلة المتطورة في طبقات الحضارة المتراصة فوق بعضها وهي القدرة على التمييز بين الحقائق والاكاذيب التي ترتدي ثوب الحقائق .. أو وفق كلمة نورمان هامبسون " القدرة على التمييز بين الحقيقة والخطأ المحبب " .. أي الخطأ الذي تحول الى عقيدة لدى الجماهير فصار من الصعب دحضه .

 

هذا تحديدا ما أطلق عليه عصر التنوير , وهو تجاوز مرحلة النقل والتعلم الى التركيز على طريقة التفكير الناقدة والفاحصة . الى العلم التجريبي "الامبريقي" القائم على التحقق من الفرضيات بالبحث والتدوين والملاحظة للوصول الى نتيجة علمية . وكانت طريقة التفكير تلك هي وسيلة نهضة اوروبا الغربية , بينما اختارت اوروبا الشرقية البقاء في العصر الابوي .. وان انتقل من ابوية دينية الى أبوية علمانية دوجمائية سلطوية .

 

اين مصر الان .. اعتقد اننا لم نتحرك بعد الى عصر التنوير الذي بدأ من مائتي سنة .. لم نتحرك نحو محو اولى درجات الامية التي لها علاقة بشكل الألف وكوز الذرة , وليس الكتابة ذات القيمة أو التفكير الامبريقي . ولا زلنا نقع اسفل استبداد مجموعة من رجال الدين الذين يحتكرون الحقائق المطلقة في الفقه والطب والسياسة والعلوم بينما الناس تنقاد لهم كأنهم يعرفون حقائق اللهوت .

 

*

الغريب أن يحدث هذا مع جماعة من البشر كانت معجزة نبيهم "كتاب" .. بينما معجزات موسى وعيسى وسليمان ويحيى معجزات ميتافيزيقة خوارقية .

 

لم يحتك النبي إلا بعدد قليل من الصحابة المقيمين معه في المدينة , وكان معظم من يسلم من المدن أو القبائل المجاورة يجلس مع النبي لبضع ساعات أو ايام يتعلم فيها اصول العقيدة والعبادة والخلق , ثم يأخذ صحيفة بها بعض آيات القرآن ويرحل . حتى تكون علاقته المباشرة بالنص القرآني وبفطرته وبربه دون وسيط .

 

ينمي ملكاته ويسائل نفسه ويقرأ ما بين يديه من آيات ويخلص الى نتيجة .. وفي كل عصر نتيجة جديدة .. طريقة علمية راقية نثرها الاسلام وانتشر بها . وبذلك قضى على طبقة رجال الدين والاستبداد الذي يرتدي مسوح الرهبان .

 

وكانت دعوة النبي الى معظم البلدان عبارة عن رسائل مكتوبة .. بها بعض المنطق العقلي وآيات القرآن والحث على التوحيد ومكارم الاخلاق . ومات الرسول البشير النذير لتمتد الرسالة بمعجزتها الباقية .. كتاب يحوي قيما انسانية ويدعو الى البحث في الكون , وتحفيز الحواس التي تتلقى الحكمة والهداية , ومخاطبة العقل والوجدان .. انت وكتاب الله والطبيعة .

 

ربما لذلك كانت القرون الثلاثة الاولى تموج بالمذاهب الفكرية والفقهية والعقائدية المتنوعة .. رغم وحدة النص واقتراب العهد من نبي الاسلام وتشابه الحوادث وعدم نشوء اي طفرة حضارية أو علمية , إلا أنه تفرقت بهم المذاهب والتأويلات .. وكان اعتمادهم الرئيسي على النص والعقل دون كهانة أو وساطة .

 

تغيرت الأمور وصار البعض يريد – بسوء نية – اقحام مؤسسة الازهر في الدستور لتكون المرجعية لتفسير نصوصه بدلا من القضاة , في خطوة مبدئية تعقبها السيطرة على الازهر , لنعود الى العصر الأبوي الكنسي في منتصف القرن الخامس عشر .

 

*

كانت الرأسمالية الاوروبية الاقطاعية في عصور الظلام تقاوم انتشار التعليم لأنه وسيلة الجماهير للخلاص من العبودية , وحينما نشأت أمريكا تعلمت الدرس وعرفت أنه لا نهضة من دون تعليم , ولذلك جعلته أولوية لنشأة الدولة , لأن قدرة العامل المتعلم على الانتاج أكبر من قدرة العامل الجاهل .. ولكن كان المهم , "ماذا يتعلمون؟"

 

ونشأ التعليم في امريكا في باكورته لترسيخ مبادئ الرأسمالية .. فمثلا كان يدرس تلاميذ المرحلة الابتدائية ضمن مناهجهم في ولاية نيو انجلند عام 1833 صفحة تحوي مجموعة من الاسئلة :

 

- س : هل لو حقق الرأسمالي أرباحا طائلة فهل يضر ذلك بالرجل العامل ؟

- ج : بالعكس ذلك يساعده على أن يدفع أجورا أفضل

- س : هل تشعر بالاسف لأن رجلا حقق أرباحا طائلة ؟

- ج : بالعكس سوف أكون شديد السعادة .. الخ .

 

الاسلام استخدم التعليم كوسيلة لخدمة الحق وتحرير الانسان , وجعل علاقة الانسان مباشرة بربه , بينما استخدمه الرأسماليون لخدمة أفكارهم , ويستخدمه رجال الدين ليفرضوا على الناس قداسة زائفة .

 

لو كنتم تريدون نهضة فانظروا هل يتعلم الناس .. وماذا يتعلمون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق