محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

حطِّموا الاصنام التي في عقولكم أولاً

كيف انتقل الفن الشعبي من محمد عبد المطلب حتى وصل الى شحتة كاريكا .. لو فهمنا "كيف" حدث هذا , لَفهِمنا "ماذا" حدث في مصر خلال نصف قرن .

 

لا أزعم معرفة الاجابة لأنها تحتاج الى بحث متخصص في علم الاجتماع ودراسات نفسية واقتصادية ودينية . ولكن ها هي محاولة للفهم .

 

--

 

في منتصف القرن الماضي كانت الاغنية الشعبية عند عبد المطلب من طراز "من السيدة للحسين" أو " مبيسألش عليا أبدا" أو "يا حاسدين الناس" .. وتطور الامر وغنى محمد رشدي "كعب الغزال يا متحني" و "ميتى اشوفك يا غايب عن عيني" . ثم بدأ الانحدار مع عصر الانفتاح وكباريهات شارع الهرم وسياح الخليج , وتحول المطرب من قيمة "فنية" إلى قيمة سوقية , واللحن من "نغم" إلى "صخب" , والكلمات من شعر وزجل وطقطوقة ومونولوج , إلى عبارات منفصلة بعضها بلا معنى واضح وبعض كلماتها خارج .

 

استطاع عدوية في السبعينات ان يقدم لونا جديدا , ولكن الانهيار قد بدأ بعد اعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 74 وزيادة سعر النفط في المنطقة .. وجاء فيلم الكيف في الثمانينات لينبهنا "المزاجانجي" لما يحدث في مصر .

 

( كان السادات يقول جملة شهيرة : اللي مش هيتغنى في عصري عمره ما هيتغنى !! وعلق الشاعر سليط اللسان "الفاجومي" بأنه بتلك الطريقة يعتبر نفسه رئيس عصابة وليس رئيس دولة !!! طبعا الجملة تكرس لقيم الفهلوة وضربة الحظ ونسيان قيمة العلم والعمل والكفاح طويل الأمد . )

 

الآن تستطيع أن تسمع أغنيات في الشارع من طراز "الوسادة الخالية تعبت مني يا غالية" في إشارة واضحة لممارسته الجنس مع الوسادة بدلا من حبيبته .. و "مبحبش الكسكسي عشان بيوجعلي بطني" .. ويتم نطق كلمة "كسكسي" متقطعة !! وأغنية "سمكة على بلطية" .. الذي يتحدث فيها المطرب عن جوان بانجو وبرشام .

 

كان محمد قنديل يغني "يا حلو صبح يا حلو طل" ويأتي في الخلفية الصيادون الذين يستيقظون في الصباح من أجل كسب العيش .. وسيد درويش كان يغني "الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية , يالا بينا على باب الله يا صنايعية , يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية" .. في تقدير للمرأة المصرية التي تستيقظ في الصباح لكفاية شئون بيتها , والرجل البسيط الذي خرج ولا يمتلك مليما واحدا ولكنه يثق في أن الله يرزق الجميع .

 

لم يكن الناس يمتلكون في بيوتهم ثلاجة أو ديب فريزر , فتعلموا أن الرزق يأتي يوما بيوم , ولذلك لم يكونوا مهمومين بكنز الطعام والمال لأسابيع أو شهور , فكان الواحد فيهم يقتنع برزق اليوم والليلة ويشعر أنه قد اغتنى , وأن غدا يوم جديد له رزق جديد .. وبذلك تنتفي الصراعات القاتلة على تكديس الطعام والأموال وتقل الاحقاد في نفوس الناس , فالجميع يمتلك طعام يوم واحد .. "برضو الفقير له رب كريم" .

 

تغير المشهد وتحول التوك توك إلى بطل في الأغنية الشعبية , في إشارة الى الشاب "الصايع" مدمن المخدرات والذي يتحرش بالفتيات ويحمل سلاحا أبيض .

 

**

 

كلاسيكيات السينما المصرية تحوي فيلما شهيرا لعبد الحليم حافظ والفنانة صباح , اخراج عام 1958 للمخرج عز الدين ذو الفقار وسيناريو يوسف السباعي .. يحكي عن شاب بسيط الحال لديه موهبة الغناء ولكنه لا يدري ماذا يفعل , فيقف إلى جواره أهل المنطقة ويتبنوه ويقرروا أن يذهب لدراسة الموسيقى على نفقتهم .. ورغم أنهم بسيطو الحال إلا أنهم يقتطعوا من أرزاقهم اليومية حتى يُكمل "منعم" دراسته للموسيقى .. وعندما يتخرج منعم ويعود بالشهادة يدين بالشكر لأهل منطقته ويشعر بفضهلم عليه .

 

كمية قيم نبيلة وراقية تعبر عن طبيعة تفكير الشعب المصري الذي لم يكن لديه ثقافة كبيرة أو تعليما متقدما أو حتى مهتم بتكريس الخطاب الديني الوعظي القائم على الشكليات والطقوس , إنما هي تصرفات شعب يمتلك حضارة بدأت مع تحتمس الثالث وعبرت على كليوباترا السابعة في مواجهة أوكتافيوس , وتمهلت عند عمرو بن العاص , ووقفت الى جوار محمد بك ابو الدهب في مواجهته أمام سليم الأول , وعرابي ضد توفيق , والجنرال عبد المنعم رياض في حرب الاستنزاف , والدكتور محمد غنيم وهو يمسك المبضع ليدشن أول عملية زراعة كلى في الشرق الاوسط .

 

في الفيلم كل أهل الحارة يجمعون المال كي يكون واحدا من بينهم يحمل "شهادة" ومتعلم تعليم عالي , في إشارة واضحة لاحترام العلم وأهميته ووجوب التضحية من أجله .. ايضا الترسيخ لقيمة التكافل , فأنت لست وحدك في المجتمع ولو مسّك الاحتياج فتجد من يقف الى جوارك , الفقير والغني , جيرانك وأهلك .

 

**

 

 

تخرج علينا جماعات الان تريد أن تحرم الفن بجميع أشكاله , وترى فيه مخالفة للشريعة الاسلامية .. رغم أن القرآن الكريم نفسه يستخدم التصوير الفني للتأثير على سامعيه وتقريب المعنى إلى الأذهان .. سيد قطب ارتكز في تفسيره على منهج "التصوير الفني للقرآن الكريم" .

 

أبو حامد الغزالي , الفقيه الفيلسوف , كان يسمع الموسيقى , والشيخ حسن العطار , شيخ الجامع الازهر الشريف , كان يقول : من لا يتأثر بجميل الاشعار تتلى بلسان الأوتار فهو فاسد المزاج لا علاج له .

 

والبخاري حينما خرج الحديث الشهير " ليأتين أقوام من بعدي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " وضع بابا في تحريم الحر – الزنا – ولبس الحرير للرجال وشرب الخمر ثم لم يضع بابا لتحريم المعازف , وقال الفقهاء المتأخرون أنه يرى أن المعازف وحدها لا تحريم فيها إلا إذا اقترنت بمعصية أخرى .

 

فالأشياء منقسمة إلى حرام في ذاتها وحرام لما تؤدي له .. الحرام في ذاته شيء محرم على طول الخط تحت أي ظرف مثل السرقة أو القتل .. والمحرم لغيره يكتسب صفة التحريم وفق الموضع الذي يستخدم فيه .. مثل السكين لو استخدمت في القتل .

 

الامام محمد عبده له فتاوى عظيمة جدا حول التماثيل الحجرية , فحواها ان الله حرم الرسم بالحجارة لانها كانت تعبد من دون الله , أما وقد زال السبب فتعود الاشياء الى حكمها الاصلي القائم على البراءة الاصلية والتحليل . ايضا بعض أراء الفقه المالكي القديم يرى ذات الأمر .. وشيخ الازهر الدكتور احمد الطيب قال بذلك .. مصر مر عليها كافة الدول الاسلامية ابتداء من دولة الخلافة والأمويين والعباسيين والفاطميين وحتى العثمانيين .. فلم يذهب أحدهم لتحطيم المعابد أو تكسير التماثيل .

 

**

 

الفن له دور كبير في تكوين شخصية الانسان وتشكيل وجدانه , وتذوق الجمال يمنحنا شيئا من الاستقرار النفسي والاتزان , ويصفي صدرنا من الغضب والكراهية ونزعة الانتقام .

 

المثّال المصري الكبير الدكتور عبد الغني الوشاحي له رأي مثير في هذا الشأن , كما ينقله لنا من أتيليه القاهرة الكاتب محمد سلماوي , حيث يرى أن خلو ميادين مصر من التماثيل له سبب في الاضطراب والتخلف الذي اصاب الانسان المصري .

 

ويوضح رأيه .. أن الانسان المصري محروم من الاحساس بالجمال وأن المجتمع لا يعمل على تنمية الحس بالجمال لدى المواطنين , وأصبح القبح يحيط بنا من كل جانب , ولكي يصل الانسان المصري الى منابع الفن والفكر فعليه أن يشتري كتابا أو يذهب الى المعرض الفني أو يبتاع تذكرة مسرح , وهي أشياء مكلفة بالنسبة لاقتصاد مرهق , أما النقوش والتماثيل التي تزين الميادين فهي لا تكلفه شيئا.

 

ويعتمد الوشاحي في نظريته على حقيقة سيكولوجية ثابتة وهي ان الاحساس بالجمال يرتقي بالانسان ويحقق له قدرا من التسامي والاتزان النفسي وهو ما سماه ارسطو التطهر katharsis .

 

للأسف الفن المصري صار يعيش بين مطاردات , إما متطرفة ومتخلفة أو مسفة وساقطة .. البعض يريد أن يتمثل نموذج طالبان في تكسير تماثيل بوذا , وهذا حدث بالفعل في الاسكندرية بتغطية وجوه بعض التماثيل , أو ترك الفن فريسة للهبوط والانحطاط .

 

**

 

كعب بن زهير حينما ذهب يشهر اسلامه أمام الرسول بدأ حديثه بقصيدة مطلعها غزل صريح " بانت سعاد " , ووفد الحبشة حينما أتى المدينة يعلن مبايعته قدم عرضا فنيا بالطبول الضخمة والرقصات الافريقية , داخل مسجد الرسول !! والسيدة عائشة كانت تأتي بجواري من الانصار تعزف لها في يوم العيد (حديث البخاري 907) .. وكان النبي لا ينهاها عن ذلك .

 

يبدو أن البعض يظن نفسه أكثر التزاما من النبي نفسه .. أو يحافظ على الدين أكثر من الرسول .

 

يقول الله ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) انهم يمارسون الفتوى أكثر مما يذهبون للاستحمام .. ولا يدركون أنهم يمارسون الكذب على رب العباد .. والميل للتحريم والتشدد منهي عنه في الاسلام لأنه من شيم بني اسرائيل ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) والله قال لرسوله ( يا أيها النبي لِمَ تُحرِّم ما أحل الله لك ) والنبي كان إذا خُيّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .. البعض قلَب الاية وجعل التحريم هدفا في حد ذاته ومقصدا من مقاصد الفتوى والأحكام .

 

 

**

 

نحن نؤسس لبناء دولة جديدة .. وما من شعب متقدم في العالم إلا ويمتلك فنا موازيا .. وأمريكا تحقق بصناعة السينما أكثر مما تجنيه بصناعة السلاح , والمخابرات الامريكية نفسها تدعم بعض منتجات شبكة قنوات فوكس , فيلم batman مثلا شاهده مئات الملايين حول العالم , والذي يظهر الشرير "رأس الغول" في نموذج عربي شرقي متخلف وإرهابي .. هكذا يحاولون تصدير تلك الصورة عنا للعالم .

 

الغزو الثقافي يتفوق على غزو الجيوش والبنادق , وأمة لا تمتلك ثقافة أو فنا هي أمة بلا هوية وعرضة للاحتلال .. وجزء من ريادة مصر في ستينيات القرن الماضي بناه الفن .. بَنتّه أم كلثوم وعبد الحليم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ .. وبعد النكسة طاف عبد الحليم أقطار الوطن العربي بأغنية "عدى النهار" فكان لها أثر كبير في توصيل رسالة بليغة لم تستطع خطب السياسيين أن تشرحها .

 

هل سنعيش لنرى فيلماً مصرياً يحوز الاوسكار كأفضل فيلم ناطق باللغة غير الانجليزية ( بالمناسبة ايران فعلتها منذ شهور عن فيلم Aseparation للمخرج أصغر فارهادي ) أو قناة اخبارية مصرية على طراز الجزيرة أو البي بي سي , أو رساماً مصرياً عالمياً أو نحاتاً ؟؟

 

**

 

منذ ايام قليلة مات محرك دُمى العرائس العالمي "جيري نيلسون" وهو صاحب دمى أشهر برنامج أطفال في العالم "شارع سمسم" , والتي اخذناها في مصر بتصرف في عالم سمسم .

 

حتى عرائس الاطفال لا نصنعها ونستوردها منهم .. رحم الله صلاح جاهين وسيد مكاوي .. رحم الله الليلة الكبيرة ومسرح العرائس لجلال الشرقاوي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق