محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 16 أبريل 2013

القهوة والموت والجنس

اعدك يا ريم ان لا نفقد الحب , فهو آخر ما تبقى .. آخر شعاع ضوء يأتي من وراء التل القريب , وآخر عود أخضر وسط الدغل اليابس المصفر .

أجلس على ذات المنضدة واشرب قهوة ..
نسيت أن أقول لك أن ابا بكر العيدروس هو من اهداها للعالم منذ اربعة قرون .. كان يأكل ثمرها فوجدها تعنه على اليقظة , فجاء الى مصر وأخبر بها المتصوفة الذين يكدون في العبادة فصنعوا منها مشروبا يستعينون به على قيام الليل .

وثار السؤال التقليدي ,, هل القهوة حرام ؟؟

وظلوا سنين طويلة يتطاحنون , هناك من يشربها سرا ويحرمها جهرا , وهناك من يجاهر بشرابه وحبه . فالقهوة اسم من اسماء الخمر . وهنا حدث الالتباس . ومر وقت حتى يدركوا ان الاسماء لا تفرق بين طبيعة الاشياء , ويجب أن ننفذ الى جوهرها حتى ندركها .

القهوة تقاوم النسيان .. فالنسيان قريب من الموت أو هو احد طرقه . وانا لا انساك يا ريم .

*

المنضدة المجاورة يجلس عليها رجل وامرأة متشابكي الايدي .

الرجل في الاربعين من عمره . الشيب قد غزا مفرق رأسه . شاربه متهدل ولحيته نصف نابته وملابسه عادية , وعيناه تحملان هموم العمر .. والمرأة تحكي له وعيناها مبللتان بالدمع . هي ايضا امرأة عادية في شكلها وملابسها , وسنين عمرها تتسارع ايضا ناحية الاربعين .

ولكن من قال ان الناس العادية لاتقع في الحب .. من قال ان الحب لا يغازل قلوب شاخت .

بعض كلامهم يصلني وبعضه اتوقعه .. يبدو أنها تزوجت منذ خمسة عشر عاما من رجل سيء الخلق , وأجبرت على التحمل كل هذه السنين , ويبدو انها في النهاية قررت الطلاق مهما يحدث .

يقول لها : بعد ما سبنا بعض سافرت ليبيا وبعدها العراق والسعودية .. اتبهدلت آخر بهدلة . بس اعمل ايه ابويا مات وسابلي كوم لحم في رقبتي .. كان لازم ادور على شغل بأي طريقة .

ترد عليه : كنت مستعدة استحمل واستناك , بس انت مشيت .

ينظر لها ويقول : كنت خايف اظلمك معايا .. كنت مجرد شاب فقير نصف متعلم وشايل مسئولية .

هي : وهل في ظلم اكتر من اللي حصلي .. ضياع العمر مفيش بعده ظلم .

يقبض على يدها بشدة ويقول في حماسة : لسه عندنا فرصة نعيش مع بعض تاني .

ومن قلب الحزن ينشأ بعض الامل .

*

منذ أن عرف الكون الجنس وهو قد تعرف على الموت .

الكائنات وحيدة الخلية ظلت تعيش هنا لملايين السنين .. تتكاثر بالانقسام , اذا بلغت حجما معينا تنقسم الى نصفين وهكذا .. ذات الكائن يحمل الذكورة والانوثة في مكون واحد , ولذلك لا يموت , ولا يتطور .. ولكن ينقسم ويعيد ذات دورة الحياة في تكرار لا ينتهي .

وجاءت الكائنات المعقدة المكونة من ذكر وانثى منفصلين , ويجب ان يحدث التقاء بينهما لنشوء كائن جديد . والانسان هو الكائن الذي جعل للجنس مرادفات كثيرة , وهو الذي غلفه بالحب والمشروعية . وهو الذي جعله خطوة في سلسلة طويلة متراكبة ومتصلة الحلقات .

يمر على المرأة شهر كامل , بينما لا تكون جاهزيتها للاخصاب الا يوم واحد , او بضع ساعات .. والرجل ينزل من صلبه عشرات الملايين من الكائنات المنوية الدقيقة , ولكنها تموت كلها عدا واحد .

المستقبلات المخية في رأس الرجل هي التي تنبهه للأنثى .. هي التي تجعله يميز تعاريج جسدها ورائحة العطر وحنو الصوت .. تترجم هذه المستقبلات المخية تلك المدخلات الى سيل من الاشارات العصبية والكهربية التي تنساب عبر النخاع الشوكي المحفور في عموده الفقري على مر ظهره ناحية اسفل , فتتنبه اجهزته الحيوية التي تنتج المني . ثم يعبر السائل الى رحم المرأة .

يقول الله ( وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى . من نطفة اذا تمنى )

كان نصف الاية الأول يكفي , ففيه دلالة على وجود الخليقة من ذكر وانثى . ولكن الله يصر على تذكيرنا بلحظة اللقاء التي تنشأ فيها الروح . يذكرنا لحظة أن تكون عاريا ورقيقا ومحبا , وتنتفض عبر كل خلية فيك . والوضع التقليدي ان تكون المرأة في الاسفل , تحتويك , لتحتوي روحا جديدة . فمن يرتكز الى الارض هو الاقوى .

تنشأ الخليقة من لحظة كتلك .. تنبت الروح من قلب الحب والتودد .. من اين اذن أتينا بكل هذه الشرور في نفوسنا ؟ لماذا يتقاتل العالم عبر آلاف السنين .. لماذا ندوس الزهور ونحتفي بالجماجم ؟؟ لا استطيع ايجاد اجابة مقنعة .

*

ظلا يتحدثان لساعة كاملة وحاولت ان اسمع كل ما يقولوه وكل ما لم يقولوه .. ما صرحوا به وما سكتوا عنه , وكان الثاني اكثر .

ثم غادرا المكان متجاورين .. خطوات مرهقة ومتثاقلة , وظللت اتابعهما بنظري حتى غابا وسط امواج البشر .

امسكت فنجان القهوة , فاكتشفت انه صار باردا .. انت يا ريم من كنتي تنبهني لتناول القهوة قبل ان تذهب رائحتها ودفئها , انت من كان ينتزعني من موجات الحزن الى دفئ الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق