محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الاثنين، 29 يوليو 2013

لأن الدين هو أرقى ‫ثقافة

( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) 168 البقرة.

ممكن أستوعب إن ربنا يأمرني بالصلاة أو الإنفاق أو الصبر، لكن يأمرني بالأكل.. كلوا.. طب ما انا هاكل. مش محتاج توجيه.

لكن الله يحب أن ينفذ إلى حياتنا اليومية، المعايشة والترفق والرعاية، والاهتمام بتفاصيلنا العادية.. الله يريد أن يكون قريبا من الانسان. وهكذا الدين. أن يجد الناس طعاما طيبا.

الله وصف الأرض أنها حلال. وطيبة. كأصل عام. لذلك عندما حرم شيئا حرمه كاستثناء من الأصل العام (قد فصل لكم الذي حرم عليكم). وذكره تحديدا. والأرض طعام لكل الناس دون تمييز ودون ظلم.

الآية لم تقل يا أيها الذين أمنوا، أو يا أيها العرب.. بل قالت "يا أيها الناس".. فالطعام في ديننا للناس أجمعين. هكذا يحفظ الدين حق الإنسان في معاملة كريمة. وحسابهم على ربهم.

والأصل أن يشبع الناس من الأرض، و يكون الجوع استثناء. لذلك كانت الآيات السابقة .. (ولنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع).. شيء من الجوع لتنمية قدرة الانسان على التحمل والصبر وتزكية النفس عن إلحاح الحاجة.

تريد تطبيق الشريعة وإعمال أحكام القرآن..؟ لتقم منظمة دولية تحمل عنوان: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.. أم أن تطبيق الشريعة يقتصر على قطع أيدي الناس والتضييق عليهم، وكأن الدين أنزله الله عقوبة لنا.!

*
ورغم تقدم الحياة وتعقد احتياجاتها إلا أن الطعام لا يزل هم الناس الأول. والمكون الرئيسي في اقتصاديات الدول.. الزراعة والصيد والانتاج الحيواني.

‫#‏الصومال‬،

تلك الدولة التي شهدت مجاعات أطاحت بمئات الألوف. ثم شهدت حروبا أهلية وتطاحن للوصول إلى نظام الحكم. حكم بلد شبه ميت. ثم جماعات مسلحة تريد تطبيق الشريعة.. أي شريعة..؟

المجتمع الدولي تدخل هناك وقت حدوث الجفاف في الثمانينات. ولكنه تدخل لتدمير الصومال بدلا من انقاذها.. أمريكا كانت ترسل لهم الحبوب. تتلقاها الحكومة وتبيعها للأفراد. وعلى المدى الطويل تغير النمط الغذائي لهم. وصاروا يعتمدون بالأساس على ما يرسله الغرب وهجروا الرعي والزراعة. فبدأت المؤسسات الدولية تتحكم في طبيعة ما يأكلون، وبذلك زادت المديونية واختل الاقتصاد.

الحبوب الأمريكية أغرقت السوق هناك، مما شرد صغار المزارعين الذين لم يجدوا مشتريا لانتاجهم المحلي.

الصومال واحدة من أهم وأغنى مراعي القارة الافريقية، وكانت تحقق اكتفاء ذاتي حتى وقت قريب. وتصدر نسبة كبيرة من الماشية إلى الدول العربية مثل السعودية.. و بعد الاضطرابات كفت السعودية عن الاستيراد من هناك وبدأت في التحول إلى استراليا وبعض دول اوروبا.

تربية الماشية وحرفة الرعي ليست شيئا مهينا نشعر تجاهه بالعار، فالاتحاد الاوروبي والبنك الدولي دمر اقتصاد افريقيا الرعوي عن طريق مضاعفة تصدير اللحوم ومنتجات الألبان "بدون تعريفة جمركية" لوسط وغرب افريقيا سبعة أضعاف. منذ عام 1984.

الأوروبي ذو الشعر الفاتح والعيون الزرق يرعى الماشية أفضل من الإفريقي الأسمر خشن اليد منتصب العود.. عجبي.

بعض الدول المتقدمة أهم ما يميزها ثرواتها الحيوانية.. مثل نيوزيلاندا وهولندا واستراليا.

وبعد فترة بدأت الرعاية البيطرية في الصومال تتضاءل، والأموال المتحصلة من بيع الحبوب يتم استخدامها لسداد الديون.. التي تتزايد.. وبتلك الطريقة ضاعت الدولة.. الزراعة والرعي يتضاءلان.. الديون الخارجية تزيد.. وحرب أهلية لتطبيق الشريعة تشتعل.

ولا تنس أن تقرأ: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.

‫#‏رواندا‬،

بلد افريقية أخرى تعاني الفقر والتوتر العرقي والحروب الأهلية.. نشأت فيها حرب حدودية بين قبيلتي التوتسي والهوتو، مات فيها مليون.. ربما أكثر.. القاتل والقتيل ينتمي لذات الدين المسيحي وذات الطائفة الكاثوليكية.

بفحص دقيق تجد أنه قبل الحرب الأهلية حدث أمر خطير حرك النزاع الخامد بين العرقيات.

السادة الكبار في فلوريدا في الولايات المتحدة اجتمعوا سويا واتخذوا قرارا، قد يبدو بسيطا ولكن له أثر عميق جدا في حركة الزراعة والتجارة واقتصاد الدولة.. قرروا خفض سعر استيراد البن بنسبة تزيد عن 50%. وكانت البلد الأولى المتضررة هي رواندا.. اقتصادها مرتبط بشكل رئيسي بزراعة وتصدير محصول البن. حيث يمثل 80% من عائدتها من العملة الأجنبية.

وبانخفاض العملة الأجنبية اضطرب الاقتصاد وساءت أحوال زراعة المحاصيل واستدانت الدولة لصندوق النقد الدولي واضطرت لخفض قيمة العملة، مما زاد الوضع سوءا وارتفعت اسعار النفط والسلع.. وتدخل الغرب ليحتل رواندا اقتصاديا.. وباشتعال الحرب الأهلية ساهموا في بيع السلاح لهم.

السادة الكبار الذي يحتكرون السوق العالمية قرروا خفض سعر استيراد محصول البن بينما سعر التجزئة الذي يبيعون به لم يتأثر.. فافتقرت رواندا بينما هم يحققون أرباحا طائلة.

وعندما يجوع الانسان ويشعر بالضياع يسهل عليه أن يكون عدوانيا، عنيفا، ويستدعي الخصومات القديمة ويحولها إلى معارك ثأرية لا تنتهي.

تذكر.. تذكر.. يا أيها الناس كلوا طيبا.. من يأكل طيبا لن يقتل. من يأكل طيبا يحب الحياة. ويحب الأمن الإنساني. ويشعر بالاكتفاء وقد ينسى بعض الخصومات.. أما الجوعى فليس هناك ما يخسروه.. حياتهم نفسها أمر غير ذي قيمة.

و السادة الكبار في ملاهي لاس فيجاس يحتفون بزجاجات الشمبانيا.

حدثني أكثر عن حقوق الانسان. عن النظام العالمي العادل.

*
لازلنا في سورة البقرة.. الجزء الثاني من القرآن.. هناك تكريس وحث على التضامن والمسئولية المادية تجاه الجميع.. شبكة اجتماعية تحث الانسان على تجاوز الذات والعطاء والتخفف من الأنانية والشح.. وأي فائض يصب لصالح الأطراف الأقل. كنظرية الأواني المستطرقة في الفيزياء.

دعونا نسرد الآيات..

1- (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخر .. وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى .. وَأَقَامَ الصَّلَاة) 177 البقرة

ليس البر مجرد وقوفك تجاه القبلة تصلي بلا قلب وبلا روح وبلا انسانية.. البر أن تؤمن بالله.. ثم تصير أول فضيلة بعدها إيتاء المال على حبه.. وهاء الضمير عائدة على الله.. أي تؤتي المال على حب الله.. القريب واليتيم والمسكين.. وتأويل آخر هاء الضمير عائدة على المال.. أي تؤتي المال مع حبه إلى نفسك.. وإيتاء المال سبق إقام الصلاة.

2- (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) 180 البقرة

ولو كنت صاحب مال فمسئوليتك لا تنتهي حتى وأنت على فراش الموت.. تذكر أهلك ووالديك وأقاربك ولو أردت أن توصي فلتوصي لهم بشيء منه..

3- (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 188 البقرة.

الآية فيها صناعة فنية.. تأكلون أموال الناس بالباطل.. ثم تدلوا بها الى الحكام.. اي أنك تنكر جريمتك وتذهب لتحتكم إلى القاضي، لأنك محترف في إخفاء الجريمة وتمتلك أدواتك أمام السلطة. فتأكل أموال الناس إثما وأنت تعرف ذلك.. ثم يكون هذا الإثم محمي بالقانون.. وهنا تخلو المساحة من أي إلزام بشري، عدا ضمير الإنسان وميثاقه الديني، الذي يتوقف على كلمة معنوية اسمها: الإيمان بالله ويوم الحساب.

ويكون الإيمان بالله ليس مجرد تمتمات أو صلوات وطقوس، بل أثر مباشر في تهذيب النفس واجتناب الظلم والالتزام بالعدل على خلاف ما تنزع إليه نفوسنا من ظلم.

4- (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)

حق المرأة بعد الطلاق.. فبعد الطلاق يحرم عليك أن تأخذ حقها الذي سبق وأعطيته لها.. ليس معنى وجود خلاف ونزاع أن يكون ذلك باعثا أن تعتدي عليها وتظلمها.. نحن نعدل مع المختلفين معنا قبل أن نعدل مع أصدقائنا. وهنا يظهر من جديد أثر الإيمان بالله في حياة الناس وواقعهم بدلا من كونه تمتمات بالشفاه.

وفي الأخير لم ينس حق الطفل المولود الرضيع أن يلزم أمه بإرضاعه، وأن يلزم أباه بالنفقة والكسوة.

5- (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ . وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا)

وفي الأخير لم ينس حق الطفل الوليد الرضيع أن يلزم أمه بإرضاعه وأن يلزم أباه، المولود له، بالنفقة والكسوة..

إنه لا يتوقف فقط عن العطاء الاجتماعي والكرم الانساني برعاية الفقير والمسكين والمحتاج والاهتمام بالأقارب وعدم ظلم المطلقة.. بل يتحدث عن أمور بديهية مثل أن تهتم الأم برضاعة طفلها.. والوصية للأهل.. وعدم الاعتداء على حقوق الناس حتى لو أمنت العقوبة.

تلك الشبكة الاجتماعية بالغة الترابط التي تكفل الحقوق للجميع هي الاثر المباشر لتطبيق الدين.. وهي التي تنشئ التزاما أخلاقيا يخلو من سلطة القانون وسلطان الحكم.. لأنه يكمن في الضمير.

وهذا هو النموذج الذي يترجم ثقافة مجتمع مسلم. "يؤمن بالله".

ولذلك كان الدين هو أرقى ثقافة عرفتها البشرية. بغض النظر عن ألاعيب البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والدعم الغذائي الأمريكي.

 للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك
البروفايل الشخصي

https://www.facebook.com/M.ELDWEK

 

الصفحة الرسمية

https://www.facebook.com/M.ELDWIK


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق