محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الاثنين، 20 مايو 2013

الإسلام بين فتحين


 (1)

...
كان المفتش الأعظم، رجل الدين الكاثوليكي المتدين، مسئولا عن تتبع عقائد الناس والتفتيش في صدورهم.. وإذا شك في إيمان أحدهم، يحله إلى المحاكمة التي تنتهي به إلى المحرقة، كهرطيق، لا يستحق الحياة.

عبر ديستوفسكي عن تلك الشخصية في روايته "الإخوة كارامازوف" .. حيث التقى المفتش الأعظم السيد المسيح في الطريق فاستدرجه إلى السجن، وظل طيلة الليل يناقشه ليتأكد من مدى إيمانه، ومدى مطابقة كلامه لتعاليم المسيحية..

فاكتشف المفتش، في النهاية، أن المسيح ليس مسيحيا كما ينبغي (!)

وأن السيد المسيح يستحق أن ينال العقوبة على جريمة الهرطقة.. ولكن شفقة به سيسمح له بالهرب.. لم يجد السيد المسيح ردا ، إلا أنه قام وقبل جبينه، ثم صعد إلى السماء.

كانت تلك المحاكم تعقد في إسبانيا بعد خروج العرب، وتمت ملاحقة المسلمين واليهود وقتلهم، ولم يتوقف التعصب عند هذا الحد، بل امتد إلى بقية المسيحيين خارج مذهبهم مثل البروتستانت.

تلك سمة العصور المتخلفة، وسمة من لم يفهم روح الدين وتسربل بقشوره، ولم ينفذ الدين إلى أعماق وجدانه فجعله رقيقا رحيما.

الآن انتهت محاكم التفتيش من العالم، وبدأت في المنطقة الإسلامية بقوة.. وهذا مؤشر خطر على طريقة التفكير التي تسيطر على الوعي العام للمسلمين وطريقة فهمهم لطبيعة الدين.

(2)

الله في القرآن تحدث عن بني اسرائيل أنهم يحرفون الكتاب وهم يعلمون.. فلم يكن ضلالهم بناء عن سوء اختيار أو تخبط أو حيرة.. ولكن عن عمد.. وكان سبب ذلك، أو نتيجة له، أن قست قلوبهم.

( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة )

وكأن الكفر والتحريف والمكابرة هم نتاج قسوة القلب.. وأن رقة القلوب تقود صاحبها إلى خير، فهي مفتاح الإيمان.. وهي طريق الله.. وبداية القسوة أن تحتكر الحق، وتحتقر الآخرين، وتنصب نفسك قاضيا على قلوبهم.

(3)

دخل الرسول على أم المؤمنين عائشة، فوجد عندها امرأة، فقال من هذه، قالت فلانة.. ثم ذكرت من صلاتها، وأثنت على عبادتها.. فقاطعها الرسول وقال، مه.. عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا. (البخاري / كتاب الإيمان)

الرسول في الحديث لا يعلق على صلاة المرأة، ولكنه يؤكد، في المقام الأول، على عدم إرهاق الناس بما لا يطيقون.

إنه يعرف أن التشدد يخلف الترك الكامل، ولو بعد زمن، وأن التيسير ينتشر في المجتمع ويجعل الناس أكثر حبا وتمسكا بدينهم.. والحب هو القوة الأولى التي تربط الناس والأديان.

الرسول لا يريد أن يكون معيار التفاضل بين الناس الإكثار في العبادة.. ويجعل الطريق موصولا بينك وبين السماء سواء بالطاعة أو حتى المعصية.. والله لا يمل.. لا يمل من العبادة، ولن يمل أن يغفر للعصاه التائبين.

يروي البخاري في كتاب الأحكام عن ابن عمر، أن الناس كانت تبايع الرسول على السمع والطاعة.. ولكن الرسول كان يضيف عبارة:

"فيما استطعتم.."

نعم الرسول لا يزايد على أحد.. ولا يشق عليه.. تخيل أنت من تعلن رغبتك في الالتزام بالسمع والطاعة ، بينما الرسول من يلتمس التخفيف والترفق قدر الاستطاعة، فالرسول لا يحب أن تكون ملتزما عن كره أو عنت.

يقول الله عن الرسول (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان)

أي أن الرسول لو استجاب لرغباتهم ستصير احكام الإسلام أكثر عنتا وشدة.. وتلك ليست رغبته ولا هدفه.. إنما هدفه أن يجعله دينا إنسانيا إلى أكثر درجة.. رحيما رقيقا بلا حدود.. وكأنه من الطبيعي أن يزايد البعض بالتشدد، ولكن النبي يخالفهم إلى الترفق.

(4)

تأتيني على المقالات كمية شتائم وبذاءات واتهامات عقيدية لا تحصى، ودائما تكون الشتائم والمزايدة من شخص ملتحي يفتخر بتدينه ويعلن ذلك على صفحته الشخصية، وينظر لنا على أننا جماعة من حطب جهنم كارهي الإسلام.

منهج الإسلام في مواجهة الكفار كان يعتمد النقاش المنطقي الهادئ الذي يثمر نتيجة قد تسهم في الوصول إلى الحق. منهج الإسلام صاغته الآية ببراعة:

(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)

لم يقل هاتوا سيوفكم.. أو هاتو نفيركم كي نرى من أكثر مالا وأعز ولدا.. بل قال هاتوا برهان.. منطق.. كلمة.. حوار محترم.

وكان منهج الكفار:

(لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه)

فكان منهجهم الصد والمصادرة والتطاول.. ليس بالامتناع عن سماع القرآن فقط، بل التعدي عليه باللغو فيه.. دون ترك فرصة للمخالف لهم في التعبير عن عقيدته بحرية وسماحة.

بعضهم يريد الانتصار للإسلام وهو يستخدم منهج الكافرين. ويظن نفسه تقيا.

*

قال الله لرسوله في الحديث مع أهل الكتاب (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)

وقال لنبيه موسى في الحديث مع فرعون (إذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولا لينا)

تخيل.. هكذا يكون الحوار مع المخالفين في العقيدة .. مع أهل الكتاب القول الحسن. ومع طغيان فرعون بالقول اللين.. فما بالك مع أخيك المسلم!

أي دين هذا الذي ينص في متون كتابه المقدس على الأحسن، وعلى لين الكلام .. ثم يكون أتباعه جماعة من الهمج.

(5)

نعم لدينا آيات تتعلق بالحرب والقتال.. ولكن الحرب للحرب.. وخطاب الحرب يحتاج الى شدة وجدية وانضباط.. ولكنها ظروف استثنائية لا تعمم على بقية الحياة.. لا يجب تبني خطاب الحرب في طرقات المدينة المسالمة.. وكانت الحرب وسيلة لأصحاب دين جديد يتعرضون للهجوم من قبائل العرب.

قال الله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير )

وكانت هذه الآية هي أولى آيات تشريع القتال، بعد أن امتنع المسلمين عن حمل السيف طوال الحقبة المكية لمدة 13 سنة. فلم يخوضوا حربا واحدة، بل ولم يكن مأذون لهم بالدفاع عن نفسهم. إما الصبر أو الهجرة.. لتعميق الإيمان في القلوب.

وكان بداية تشريع القتال بآية تضع أسبابه، واسبابه هي التعرض للظلم والقتل.. وهنا يتوجب الرد.

يدعم ذلك آية :

(فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم . وألقوا إليكم السلم . فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)

أي، لو كفوا عن قتالكم والتعدي عليكم فلا تملكون عليهم من سبيل.. لا تتعرضوا لهم بالأذى أو الإكراه الديني أو المادي. لو توقف الكافر عن حربك فلا تقاتله، بل لا تملك عليه أي طريق للتعدي. إلا أن تعايشه بسلام.

والإسلام يبحث عن أي سبب ولو كان ضعيفا، أو واه، أو غير مقنع تماما، لافتراض حسن النية في الناس.. ولا يفتش عن نواياهم أو عقائدهم ويترك حسابهم لربهم.

أسامة بن زيد خرج لتأديب جماعة من الكافرين المعتدين.. ولما وقع رجلا فيهم تحت سيفه، قال أشهد ألا إله إلا الله.. فقتله أسامة.

محارب خرج لقتالك وحرص على قتلك.. ثم تغلبت عليه، فلجأ إلى حيلة.. ونطق بالشهادة.. هو كذاب لا شك، وغير مؤمن لا ريب.. ونسبة كذبه تكاد تصل إلى مائة بالمائة.. بل لو تركته فقد يميل عليك ويقتلك هو.

وعندما أخبر أسامه الرسول بالحدث، غضب، وظل يردد: هلا شققت عن صدره..

هذا الرجل قطعا لم يؤمن.. ولم يطبق أي شيء من تعاليم الإسلام.. ولم يتعبد إلا الله ولو ليوم واحد.. ولم تتغبر جبهته بسجدة واحدة.. فوق ذلك بادرنا بالقتال.. ولكن لو نطق بكلمة شفهية، ولو لم تمس القلب، تصير كافية لافتراض الإيمان فيه!

يا ربي إنهم يشككون في عقائد ناس أكثر إيمانا بكثير من هذا المتحايل الذي غضب النبي من أجله أشد الغضب، وتمنى أسامة أن لو لم يكن مسلما ساعتها.

وفي رواية أخرى عند البخاري، في كتاب المغازي.. كان خالد ابن الوليد على رأس سرية إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا.. ربما يتحايلون، أو لم يعلموا الإسلام جيدا.. فقتلهم خالد.

وعلم النبي.. فتمعر وجهه من الغضب.. ورفع يده إلى السماء وظل يردد.. اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد.

تخيل ناس غير مسلمة.. ولم تتعبد ليوم واحد .. ونطقت باسم الإسلام خطأ.. ورغم ذلك افترض فيهم الرسول الخير.. وعصم إيمانهم المشوه.. وتجاوز عن قولهم، وحاول أن يلتمس شيئا طيبا خفيا قد لا نعلمه في قلوبهم.

حتى لو أخطأ الناس في اسم الدين ومدخل العقيدة، فالرسول يسامح.. فما بالك بمن يتهم من يحسنون النطق والعبادة والخشوع!

(6)

ذهب الأعراب وسألوا عن عبادة الرسول فتقالوها .. أي وجدوا أن الرسول لا يتعبد بما فيه الكفاية.. فخرج عليهم الرسول وأنكر عليهم المغالاة والمزايدة .. يبدو أن البعض قد يرى أن محمدا ليس مسلما بما فيه الكفاية.. تماما كما رأى كبير المفتشين أن المسيح ليس مسيحيا كما ينبغي.

هكذا تنهزم الأديان، ويكفر الناس بها، وتتحول إلى عبء على ثقافة البشرية، فترفضها، لما تورثه من كراهية وعداء واضطراب المجتمعات.. على عكس ما هدفت له..

*

يجهل هؤلاء أن الفتح الأول للإسلام في المدينة كان بالقرآن وليس بالسيف أو العنف أو الإكراه.. مقر الإسلام الأول تهيأ أتباعه بسماع القرآن.. والقرآن كلمات.. والكلمات تحتاج إلى تدبر وهدوء واقتناع.. والكلمات المقنعة لا تطيق التشنج والتشدد والبذاءة.

ذهب لهم مصعب ابن عمير بعد بيعة العقبة الأولى.. كما يروي ابن هشام في سيرته.. وجلس في بيت أسعد بن زرارة.. يقرأ ويصلي ويدعو الناس بالحكمة.. فعلم به شرفاء يثرب. فأرسلوا في إثره لقتله أو إخراجه.

ذهب له أسيد بن حضير يحمل حربته، ويدعوه للخروج من المدينة، لأنه على حد قوله يغري سفهاءهم..

فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع فإن رضيت الأمر قبلته وإن كرهته نكف عنك ما تكره..

لا يطلب شيئا سوى أن يسمع منه، وله أن يرضى به أو يرفضه.. هكذا بكل بساطة.

وتكرر الأمر مع سعد بن معاذ.. فأسلما، وكانا من أشراف القوم فقادا الناس إلى الإسلام.. وكان الفتح الأول.. بالكلمة. الآيات. القرآن.

(7)

فتح الإسلام الأول في المدينة كان بالكلمة.. وفتحه الثاني في مكة كان محمولا على رايات العفو والصفح، وعدم الانتقام ممن قاتلوهم وأخرجوهم من أموالهم وديارهم..

وهكذا يعيش الدين. بين فتحين.. أحدهما يحمل الكلمة والثاني يقدم المصافحة.. فماذا تريدون من الدين وكيف تفهموه.

 
 
..................
 
 

للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك

البروفايل الشخصي

https://www.facebook.com/M.ELDWEK

الصفحة الرسمية

https://www.facebook.com/M.ELDWIK

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق