محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

السبت، 29 يونيو 2013

جدتي ..


المرة الأولى التي تعرفت فيها على الموت كنت صبيا في الثانية عشرة، عندما ماتت جدتي لوالدي، اسمها أمينة.. مات زوجها وهي شابة وترك لها ستة أولاد، علمت البنين وزوجت البنات بأكبر قدر من الجهد وأقل قدر من الخسائر.

فقدت إحدى عينيها في سن متأخرة، وتعرضت لجلطة منعتها القدرة على الكلام لسنين.. ربتني صغيرا وحكت لي عن جدي الرجل الصالح الذي لم أره.. لقد مات وهو متوضئ وذاهب لصلاة العصر.. كان يعبر الطريق مسرعا حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام فصدمته سيارة مندفعة.. كان وفديا وكره الضباط الاحرار وتعرض للسجن والمصادرة والتضييق في تجارته من قبل نظام ناصر ومات فقيرا..

وكانت تصنع لي حلوى بدائية من عجين وسكر حين الفجر.. وكانت تشتري لي البلي حتى ألعب في الشارع رغما عن إرادة أبي.. وكانت تخفي أخطائي وتحميني في الشارع من الاعتداء .. ولا يجرؤ أبواي أن يعاقباني طالما هي موجودة.. منحنية عجوز تستند إلى عصا قصيرة لكن لها مهابة عظيمة.

كان لديها فرن من الطين ويشتعل بالحطب أمام المنزل.. تنادي أمي في الظهر لتناولها الطعام لتطهوه (لم يكن لدينا فرن غاز أو كهرباء) رائحة السمك المشوي لم تغادر أنفي.. وطعم صواني البطاطس لن تتكرر ثانية.. و في المغرب تكنس الشارع بمقشة بدائية من جريد النخل.

وقبل النوم، تقول لي: اتمسى بالخير.. فلا أعرف كيف أرد.. فتعلمني .. مساك سالم رضي.

وصارت علامة المساء..

وعندما تنسى أذكرها..

أناديها وأنا أصعد السلم: ستو أمينة ، اتمسي بالخير.

تبتسم وتقول، مساك سالم رضي..

ثم توصيني: "حين أموت لا تنسى قبل النوم أن تسلم علي وتقرأ لي الفاتحة.. سأسمعك من هناك."

كنت أظنها تمزح.. وأنها والسماء موجودتان كالأزل.. وماتت.

نظرت لها أودعها وشعرت أنها ستفتح عينيها وتنطق.. واشتركت في حملها رغم قصر قامتي.. ورأيتهم يضعون التراب.


وفي اليوم التالي، أردنا بناء مقبرة صغيرة كعهد البلدان الريفية، لا ترتفع إلا نصف متر.. جارنا في الشارع بناء عجوز اسمه احمد أبو السيد.. شاخ في السن وارتعشت يده وضعف بصره.. لم يعد قادرا على بناء البيوت ورص الطوب باعتدال.. لكنه لم ينس بناء المقابر.

جلست إلى جواره من الصباح وحتى الظهر إلى أن أتمها.. وذهبت إلى ورشة رخام، قلت لصاحبها أريد قطعة مكتوب عليها اسم جدتي "أمينة ابراهيم".. وآية واحدة: إن المتقين في جنات ونهر.

وكان معي ثلاثون جنيها.. اخذهم مني وسامحني في الباقي. وتلك كانت تجربتي الأولى..

*

في محاكمة مبارك اليوم، مرافعة النيابة تثبت أن شركة المقاولين العرب قامت ببناء "مقبرة" لعلاء مبارك ومجدي راسخ تكلفت 14 مليون جنيه (!)

حتى الموت صار فيه تمييز..

الحمد لله أن جدتي ماتت وهي تظن أن مبلغ خمسمائة جنيه كاف جدا كي تعتبر نفسك ثريا..



للتواصل مع الكاتب عبر الفيس بوك

 


البروفايل الشخصي

https://www.facebook.com/M.ELDWEK

 


الصفحة الرسمية


https://www.facebook.com/M.ELDWIK


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق