محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الأحد، 31 مارس 2013

الله لا يحكم العالم

في المدرسة الابتدائية أصرت المدرسة أن أحفظ حديث الرسول" والله لا يؤمن من بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم " .. وتابعت , أن الرسول كان ينصح زوجته التي تطهو اللحم – وقليلا ما كان يذوق محمد اللحم – أن تكثر من المرق حتى تعطي لجارتها منه .. يجب أن يشاركك جارك ما هو أكثر من الرائحة , حتى لو كانت مشاركة زهيدة تتمثل في طبق مرق .

عدت من المدرسة وتناولت اللحم وكان لي جار لا يعرف طعمه إلا كل بضعة أشهر مرة , فسألت من حولي لماذا لا نقتسم الطعام جميعا , فالطعام يفسد عند البعض من كثرته بينما هناك بطون خاوية في مكان آخر تحتاج له .

المشكلة ليست في الندرة إنما في سوء التوزيع .

نقلت لهم ما حفظته في المدرسة في حصة التربية الدينية , ولكنهم نظروا لي بدهشة وضحك بعضهم على كلامي ووصفني آخرون أني شيوعي .. لم أفهم لماذا يضحكون , ولم أدرك معنى الكلمة التي وصفوني بها , ولكني كنت على يقين من أن هناك شيئا خطأ , وأن هؤلاء الناس لم يحضروا حصة الدين في الصف الخامس الابتدائي , حينما كانوا صغار !!

جاء وقت الصلاة فذهبت للمسجد .. وبعد التسليم حدثت مشادة بين اثنين .. احدهما يقول "حرما " للجالس الى جواره , ولكن الثاني اصر على أنها بدعة لم يأت بها الرسول !! وهنا أدركت كيف يضيع الاسلام .

شوقي يقول واصفا الرسول : الاشتراكيون أنت إمامهم . . لولا دعاوى القوم والغلواء .

الاشتراكية لن تكسب ببيت شعر يا شوقي .. الرأسمالية تكسب حتى من دون شعر وبلاغة .

*

أما في حصة التربية الدينية في الصف الاول الاعدادي قالت لي المعلمة أن النبي هاجر من مكة الى المدينة حينما اشتد عليه أذى الكفار وأنه وبضع مئات استقروا في يثرب بعد أن تركوا أموالهم وديارهم , وكانوا بلا أي ممتلكات بعد أن انسلخوا من حياتهم من أجل ايمانهم بالدين الجديد .. تضحية حقيقية .. وبعد أن استقر المهاجرون وسط سكان المدينة أصر هؤلاء السكان أن يتشاركوا أموالهم وأرضهم ونساءهم مع المهاجر الفقير الذي تشققت قدمه من رمال الصحراء وتقشف وجهه من حرارة الشمس .

أحدهم قال لأخيه : انظر في زوجاتي أيهم أعجب لك فأطلقها فتقضي عدتها وتتزوجها أنت بلا مهر أو تكلفة .. هل هؤلاء بشر ؟!! كيف تخلصوا من كل سوءات النفس البشرية من أنانية وأحقاد وغرور .. ماذا فعل محمد بقلوبهم .. كيف وصل بهم الى تلك المرتبة من الرقي .. كيف جعل رجال الصحراء الغلاظ يتصرفون بتلك الطريقة !!

مضى على تلك الواقعة أكثر من الف سنة وصار أتباع محمد أكثر انحطاطا وكنزا للمال وكرها للغير , وصاروا منكفئون على ذواتهم وغير مكترثين بمعاناة الغير .

*

في مطلع التسعينات كانت هناك قمة طارئة في الجامعة العربية لتقرير مشاركة الدول العربية ضمن القوة الدولية لمهاجمة العراق وردعها عن احتلال الكويت .. طبعا لم تكن قوة دولية , ولكن أمريكا بعد أن انفردت بقرار الحرب , وفسرت بيان الامم المتحدة الصادر برقم 688 وفق هواها أرادت أن تسبغ على هجومهاعلى العراق شرعية دولية منفصلة عن مجلس الامن .

القرار كان معد سلفا .. دول الخليج تكره العراق , وحسني مبارك تلقى وعود مغرية بإنقاذ الاقتصاد المصري وأن الدولارات ستنهال عليه من كل حدب وصوب , وكانت قمة مشوشة معروف قرارها مسبقا , وأثناء النقاش قال صدام حسين في محاولة بائسة للمقاومة , وكان يوجه كلامه للرئيس المصري المتزعم القمة " أن عوائد بترول العراق والكويت ستصل الى أفقر فلاحة تقبع في ريف مصر " .. صدام حسين كان يحب مصر , وكان صادقا في وعده .

لا أدافع عن الرجل .. فهو سفاح مهووس .. قام بعمليات إبادة جماعية لأكراد الشمال ومارس القمع والاضطهاد على شيعة الجنوب .. وأدخل العراق في حروب عشوائية لعشر سنوات متتالية ابتداءا مع ايران ونهاية بالكويت استنزف فيها موارد وطنه .

ليس خاف على أحد أن العراق كانت صاحبة قرار شن الحرب على ايران عام 1980 بمباركة أمريكية , حيث أرادت أمريكا محاصرة الثورة الصاعدة بقيادة الخوميني .. أمريكا تضرب بعضنا ببعض .. تنفق الدولتان أكثر من مئة مليار دولار في حرب عشوائية على ترسيم الحدود عند " شط العرب " وأمريكا تشرب النبيذ وتستمتع بهذا العرض الوحشي .

وأثناء هذا الود بين نظام صدام وبين الادارة الامريكية , قرر الرجل اجتياح الكويت .. ظن أن أمريكا تفي بالعهد وتحافظ على بقاء الصداقات الدائمة .. ولا يعلم أن العلاقات بين الدول لا تحكمها الأخلاقيات , إنما السعي خلف المصحلة حتى لو أدى إلى ان تنفض الدولة يدها من أي تعهد قامت به في السابق .. ألتقى صدام بالسفيرة الامريكية " غلاسبي " وأخبرها بنيته في الغزو , وأراد أن يعرف قرار أمريكا حول هذا الشأن , قامت السفيرة بإجراء اتصالات مكثفة بالادارة الامريكية في واشنطن , وكان الرد : على بركة الله يا حاج صدام .. هذا شأن داخلي ولا علاقة لأمريكا به .

ثم بعد اندلاع الحرب سارعت امريكا باستصدار قرار من مجلس الأمن , يؤكد على دور المجتمع الدولي في حفظ السلم والأمن الدوليين , وأن ما يجري في العراق ليس شأنا داخليا , إنما يمس الصعيد الدولي ككل , مما يستوجب التواصل الدبلوماسي ثم العسكري لتحجيم تلك المخاطر . . والبس يا عم صدام عشان نازلين .

طبعا "جملة حفظ السلم والأمن الدوليين " جملة مطاطة قابلة لتفاسير عديدة .. هم من يضعون المبدأ وهم من يفسروه وهم من يطبقوه .. ونحن مجموعة من الخراف الضالة لا تدري ماذا يصنع بها .. يسكتون عن الصومال خمس سنوات كاملة ولكن يتدخلون في العراق في شهور , ولا أحد يتحدث عن مخيمات اللاجئين في فلسطين ولبنان .. طب إيمان حجو ماتت .. عادي ياعم هتخش الجنة برضو . وأهم حاجة متقلش للجالس الى جوارك " حرما " أو " تقبل الله " لأنها حرام .

*

البعض لا يدرك أن فاتورة حرب الخليج مضاف عليها عشرة مليارات دولار - كربح هامشي - دفعتهم السعودية من عوائد النفط .. ههههههه .. يقتلونا بسلاح أمريكي ونفط سعودي .. وبيت الله الحرام يصلي التراويح مش 12 ركعة لا 22 عشان السنة .

أمريكا تنقذ الضعفاء .. تحمي اكراد العراق .. تنتصر لجلال طالباني .. ولكنها تغض الطرف عن أكراد تركيا الذين تقتلهم الحكومة التركية بالطائرات .. بس تركيا دولة صديقة في حلف الناتو .. ولا تمثل خطرا كبيرا .. وبعدين اللي هيموتوا هناك هيخشوا الجنة برضو .. دا انت بايخ بشكل .. مستخسر فيهم الجنة يعني !!

*

كيف كان يمكن تجنب هذا الوضع المأزوم داخل العراق .. أكراد سنة , عرب سنة , عرب شيعة .. اختلاف عرقي وديني وثقافي .. هل دولة القانون هي الحل .. تداول السلطة والمساواة الكاملة والتشريعات الموحدة .. علمانية ؟؟ بس العلمانية كفر .. طب والقتل هو اللي حلال ؟!! صرت غير متأكد من أي شيء .

*

منذ عدة ايام تطالعنا صورة السيدة "كريستين لاجارد" مديرة صندوق النقد الدولي , التي تقف على رأس مؤسسة مالية تتحكم في مصير العالم .. تجلس المرأة في ثقة ويحيطها مجموعة من الرجال الذين يحاولون اظهار رباطة الجأش ولكن قلوبهم واجفة .. محافظ البنك المركزي ووزير المالية ووزير الاستثمار وسيادة الرئيس .. كنا نحتاج الى فنان من طراز مايكل أنجلو ليرسم صورة موازية لرائعته " العشاء الآخير للسيد المسيح " .

لم يعد أمير المؤمنين يؤم الناس في الصلوات ويتخذ القينات والجواري , ولكنه صار يستجدي من أجل حفنة دولارات لتعينه على تطبيق الشريعة وإرساء الخلافة . سيقطع أمير المؤمنين يد السارق .. في أوطاني من يختلس مائتي جنيه ليدفع المصروفات التعليمية لابنه يصير لصا خطيرا وجب قطع يده , ومن يسرق مليارا يصير مستثمرا يجب احترامه . أحدهم يذهب الى أبو زعبل والثاني يذهب لشواطئ بالما دي مايوركا .

من يقترض من البنك خمسة آلاف جنيه من أجل شراء جهاز لابنته يكون متعاملا بالربا ومصيره المحتوم في نار أعدها الله للكافرين , ومن يستدين بخمسة مليارات دولار يقول فضيلة الشيخ أنها " مصروفات إدارية " .

مهاتير محمد صانع نهضة ماليزيا , الرجل الاسلامي القح الذي اعتمد العلمانية في وطنه ليتغلب على معضلة المالايو وانهاء الصراع الطائفي والعرقي , سألوه ماذا فعلت لصنع هذا التقدم المذهل ؟؟ قال لهم – ابتداء – لم استمع لنصائح البنك الدولي .. تقريبا محدش في الوطن العربي سمع كلام مهاتير .. أو سمعوه بس محدش عرف يترجم . المشكلة في الترجمة !!

لن أتحدث كثيرا عن أن أمريكا تسعى للسيطرة على منطقة الشرق التي تمثل مخزنا مهما للنفط وسوقا استهلاكيا ضخما تبيع فيها منتجاتها , ومكانا ممتازا لتنامي شركاتها الضخمة العابرة للقارات والتي تمتلك رؤوس أموال تفوق رؤوس أموال دول , وأن أمريكا في سبيل ذلك تلجأ لكل الوسائل , السلاح والاقتصاد والثقافة , وأن البنك الدولي أحد أذرع الولايات المتحدة التي تحوط بها حكومات المنطقة حينما تغريهم بالاقتراض , وتنهك اقتصاد الدول بخدمات الديون ثم تستغل هذه القروض في تمرير مواقف وشروط سياسية بعينها , كما أن هذا يسمح لها بالاطلاع على تفاصيل الموازنة العامة للدولة المقترضة , فتصير مكشوفة لها .. فعلوا هذا قديما مع الخديو اسماعيل وكان تمهيدا للاحتلال .

ولكني تذكرت الحديث الذي حفظته في الصف الخامس الابتدائي الذي يؤكد على نفي الايمان عن الجار المسلم الشبعان الذي يجاور رجلا جائعا .. وتذكرت مقولة صدام حسين بأن عوائد النفط ستستفيد منها الفلاحة المصرية في أقاصي الريف .. وتذكرت وعود دول الخليج بمساعدة الاقتصاد المصري بعد استقرار الاوضاع , وأن هذه دول اسلامية عربية مجاورة لنا , وأنها تمتلك فوائض ضخمة يستحسن – من باب تطبيق الشريعة – أن تضعها تحت تصرف مصر لتتمكن من النهوض وصناعة تنمية .. أم تطبيق الشريعة هو ملاحقة النساء في الشوارع !!

وتذكرت الشيخ زايد عليه رحمة الله , الذي أراد مساعدة مصر , وكان يقول دائما : منذ بضعة عقود كنا دول صحراوية متخلفة وشعوبا بدوية ضائعة , وكانت مصر ترسل المهندس ليبني والطبيب ليداوي والمدرس ليمحو الجهل ورجال القضاء والقانون ليصنوا التشريعات , وكنا اذا أردنا الترفيه ضبطنا موجات الراديو أو هوائي التلفاز ناحية القاهرة لنستمع الى أم كلثوم أو نتأمل سعاد حسني أو ننصت الى حوارات يوسف السباعي وثروت أباظة وطه حسين .

*

حينما أراد ناصر بناء السد , امتنع البنك الدولي عن تمويل المشروع بدعوى أن ناصر يشكل خطرا على مصالح امريكا , فغنى عبد الحليم " قلنا هنبني وادينا بنينا السد العالي " .. ولم يكذب ناصر ولم يكذب حليم .

بل نحسن صحبته

ليس من السهل أن تتفق القبلية على شخصية أحدهم .. الرجل الحر في صحراء شبه الجزيرة لم يعتد الانصياع الى أي سلطة .. هو حر دوما , والأرض الممتدة تمثل له الكثير , إنها غير مملوكة لبشر , وهو يقطع فيها بقدر اتساع خطوات فرسه . يضع سيفه في رقبته ولا يحمل الدولة مسئولية حمايته .

ولكن الخزرج قد اتفقوا على عبد الله بن أبي .. كان شجاعا وفصيحا ولديه نظرة ثاقبة , وقامته الممشوقة تعطيه الكثير من المهابة . وأثناء صناعة تاج الامارة وتزيينه بحبات الخرز انقلب الحال . وجاء محمد (ص) الى يثرب فارتضته القبائل رسولا وحاكما وقائدا .

وأجهضت أحلام عبد الله بن أبي في تاج الامارة . ونظر الى القادم على أنه عدو .

ومرت الايام , وأشهر عبد الله اسلامه , على كره , يتلفظ كلمات تخالف طبيعة ما في قلبه .فكانت النتيجة أنه كفر من بعد إيمانه , لو كان بالفعل قد آمن يوما .

ولأن محمدا كان انسانا عظيما الى جوار كونه آخر الرسل , فهو يتفهم نوازع البشر وضعف تكوينهم , وما يخالطه من احقاد أو طموح أو احباط .. ولذلك تفهم موقف عبد الله . رغم يقينه من كفره .

عبد الله بن أبي جعله الرسول على رأس سرية كان من المفترض أن تخرج غازية لتعضد الجيش الذي يحارب في أُحد .. ولكنه قام بمناورة وعاد بسريته التي كانت تمثل قرابة ثلث الجيش .. فأضعف من القوات حول الرسول.. ولم يعاتبه الرسول ,رغم استحقاقه محاكمة عسكرية تودي بحياته .

وعندما زاد أذاه للرسول , وجاهر بالعداء , جاء الى النبي ابن عبد الله وكان من خيرة المؤمنين , وقال له لو كنت آمرا قتل أبي فاجعلني من يقتله فأنا لن أطيق رؤية قاتل أبي .

فواساه الرسول وهدأ من غضبه , وقال له وهو يبتسم , " بل نحسن صحبته ".

يا رسول الله , إنه منافق .. لقد جهر بكلمة الكفر .. إنه يشتمك .. إنه يتآمر ضد هذا الدين .

يصمت عنهم الرسول , ويوازن بين أمور الدين ودوافع السياسة والادارة .. ويتعاطى مع العامل الانساني السيكولوجي لكل حالة على حدة , ثم يصدر حكمه : بل نحسن صحبته .

ولكن أتباعك , أيها المعلم , قد أساءوا الصحبة .

الخميس، 28 مارس 2013

لن ينتصر الرسول

وأثناء أزمة سب الرسول ، كان الشيخ محمد حسان يصرخ من فوق كرسيه في الاستديو مخاطبا المشاهدين:

انصر رسولك ولو برسالة SMS !


ولا يعلم المشاهد أن عوائد الرسالة لن تصل للفقراء أو البحث العلمي أو تصنيع السلاح. ولكن لجيب الشيخ وشركة الاتصالات ومنتجي القناة. ليتحولوا إلى نادي المليونيرات ، على حساب سب الرسول.

تذكر الإحصاءات أن رسائل الـ SMS وحدها كانت توفر لقناة الشيخ حسان قرابة مليون جنيه شهريا!

أمامي تقرير صحفي رصين يرصد ثروة الشيخ محمد حسان من عقارات وفيلات وشاليهات وملكيات زراعية وأسطول سيارات. بعضهم سيجيب أن الله لم يمنع أن تكون ثريا. لا بأس. ولكن الثراء يجب أن يكون نتيجة عمل ما. زراعة قوية أو صناعة صامدة أو شبكة تجارية تفيد الناس. أو بناءا على الإبداع والابتكار في الفن أو العلوم.

أما أن تكون ثريا لمجرد أنك داعية أو واعظ أو تحكي بعض القصص. فهذا أمر مريب. وقد يكون مدمر. لأن الدعوة إلى الله فيها مشقة وتضحية. ويجب أن يكون سالكها قدوة. خاصة في مجتمع غلبه الفقر والمرض والتدهور. في مجتمع نصف الأسر لا تمتلك صرف صحي وهناك من يزيد عن 9 ملايين عاطل و30% من الأطفال تحت سن 5 سنوات مصابين بمرض التقزم. كما تعلن التقارير الحكومية لمجلس الوزراء.

كما أنه يصدر نموذج للشباب أنك تستطيع أن تكون ثريا من لا شيء. أو ثريا على حساب الدين.

أترك هذا وأقلب في كتب السيرة في سنوات الدعوة الأولى حيث خباب ابن الأرت الذي يحرقوه بالنار حيا. ومعاناة آل ياسر ومقتل سمية على يد أبي جهل بحربة في فرجها. ومصعب الفتى المدلل جميل الثوب والعطر الذي ترك كل ذلك و عاش حياة متقشفة بسبب إيمانه. وأبو بكر الذي ضربوه بالنعال على وجهه.

ثم تنزل الآيات لتحثهم على الصبر والتضحية . لتكونا القيمة الأولى في الإسلام بعد الإيمان بالله. ثم عندما يصيروا أقوياء يحثهم على العفو والتراحم.

وبذلك يصير الإيمان محصورا بين صبر وعفو. بين تضحية ورحمة.

كان من السهل أن ينصر الله رسوله والمؤمنين معه منذ اللحظة الأولى، ولكنه يريد أن يشرع لعقيدة الإنسان القائمة على العمل الجاد والدعوة بالحسنى والصبر.. وأن يكون الانتصار لعقيدة السماء قادم على يد البشر.. بالعمل والإخلاص والكفاح لسنوات.. الدم والدموع والعرق.. وليس من خلال الفهلوة أو العشوائية أو ضربات الحظ السريعة.

لو أن رسول الله كان حيا بيننا وسمع الشيخ حسان يتحدث عن النصرة عبر رسالة SMS ، لعرف أنه من هنا يموت الإسلام وتأتي الهزيمة.

*

لن أنسى كلام الدكتور زويل عن رجل أعمال أمريكي ثري اسمه "جولدن مور". عندما أرادت الجامعة التي يعمل بها الدكتور زويل في بنسلفانيا اعتمادات مالية ينفق منها على بعض البحوث العلمية. قالوا له أن بعض الأثرياء يقومون بالتطوع لتمويل البحوث. وذكروا له اسم جولدن مور صاحب شركات Intel الشهيرة.

ذهب الدكتور زويل له فوجد رجلا بسيطا يقوم بتصليح هوائي التلفاز "بيظبط الإريل" بنفسه، وقابله بحفاوة وسمع منه مشروع البحث، وفي ثوان احضر الرجل شيكا ومضى على 600 مليون دولار !

لم يصدق الدكتور زويل الرقم . ولكنها حقيقة .

بيل جيتس أحد أثرياء العالم، تم اتهامه في قضية تهرب ضريبي، فكان رده أن تنازل عن نصف ثروته! ما يزيد عن 15 مليار دولار!

هل يستطيع أحد مشايخنا أن يتنازل عن نصف ثروته لدعم الاقتصاد أو تنمية البحث العلمي! هل سمعنا عن ذلك من قبل!! مجرد اسئلة تدور في خيالي.

السؤال الأهم، من هو الأكثر ورعا وزهدا، جولدن مور أم الشيخ حسان!!

هناك أثرياء عرب مسلمين يشترون ساعة يد بملايين الدولارات.. لم أسمع الشيخ محمد حسان يتوجه لهم بالخطاب. ولكني سمعته يتحدث عن لم المعونة من بائعة الجرجير!

*

يسألني سائل، وكيف ننتصر للرسول أيها المتحذلق الذي لا يكف عن النقد.

قبل أن أشرع في الإجابة، أحب أن أقول أن العقيدة الدينية كانت هي العاصم الأخير للشعوب المؤمنة في ظل التحلل السياسي وصراعات القصر وموجات الإحتلال الأجنبي. كانت الناس لا ترتكب الجريمة حتى لو لم يكن هناك بوليس. وكانت تحسن عملها وترضى بالرزق ولا تكذب أو تخون بناءا على التزام عقيدي بحت.

وهذا هو الدور الذي يلعبه الإيمان في المجتمع. بعضهم ضل الطريق ونزع الدين من قلوب الناس ليجعله أمرا ظاهريا بحت. ثم نزع بقايا الدين في المجتمع ليقحمه في دهاليز السياسة. ليكفر الناس بالسياسة والدين معا.

دعني أقرأ لك عنوان أحد الأبواب في صحيح مسلم.. باب النفقة على الأقربين ولو كانوا مشركين.

تريد الانتصار للرسول، ابحث عن أقاربك المحتاجين للنفقة.. تعليم / سكن / علاج / سداد ديون / زواج.. الخ . واكفلهم. وكل على قدر استطاعته. وشجع غيرك من أثرياء العائلة على ذلك.

ملحوظة، هذا الباب في صحيح مسلم معنون بـ: النفقة على الأهل "ولو كانوا مشركين" !

وهنا دلالة مهمة، وهي أن هناك روابط بين البشر تتجاوز رابطة العقيدة. وأن المسئولية والمشاعر الإنسانية تتجاوز حدود الالتزام الديني. بعض الوقت.

وقياسا على ذلك . نستطيع أن نستنبط روابط انسانية أخرى تحقق أهدافا طيبة بين البشر وقد تكون مستقلة عن الدين. ولكنها لا تصادمه أو تلغيه. مثل رابطة الوطنية والانتماء للأرض. الوطنية التي لا يعرفها الشيوخ ويعتبروها دربا من الكفريات.

*

حديثان يرويهما الإمام مسلم في باب الزكاة، أن الرسول قال لصحابته: على كل مسلم صدقة.

الرسول لم يقل على كل مسلم غني أو موسر أو رغد العيش. كونك مسلم فهو يحثك على العطاء والحنان، حتى لو امتلكت القليل. كونك مسلم يضع عليك مسئولية اجتماعية تجاه الجماعة التي تعيش معها.

عالم الإجتماع الفرنسي الشهير "دور كايم" تحدث عن فكرة مهمة هي، الضمير الجمعي.. حيث أنه إذا اصطدمت عواطف الفرد الشخصية بالواجبات الاجتماعية فإنه غالبا ما يتغاضى عن مشاعره الداخلية ويخضع للمثل العليا في المجتمع. لذلك فمسئولية المصلحين والمثقفين ورجال الدين بناء هذا الضمير الجمعي الذي يحد من غلواء جشع الانسان وظلمه وميله للاعتداء.

إن بناء الضمير الجمعي لجماعة بعينها من البشر لا تقل أهمية عن بناء نظام سياسي محكم. وللأسف رجال الدين في مصر قاموا ببناء أسوأ ضمير جمعي لنا منذ الانفتاح وموجات التدين الوهابي. ثم زادت الطين بلة عندما اختلطت السياسة بالدين فرأينا وجها سيئا مليئا بالكذب والانتهازية وغياب القيم لرجال الدين الذين مارسوا السياسة.

كان الأديب الروسي "ليو تولستوي" مشغولا بالأسباب التي تؤدي الى نشوب الحروب بين الدول والجماعات البشرية. وتعددت المذاهب في هذا الشأن. فهناك من قال أن الدول المتشابهة في العقيدة لا تتقاتل "هيتنتجتون". وهذا تفسير خاطئ لما شهدته أوروبا "المسيحية" من حروب دامية. وحروب قبائل الهوتو والتوتسي في افريقيا. وقتال العباسيين والعلويين في صدر القرون الإسلامية الأولى.

والبعض أعادها إلى تضارب المصالح وصراع النفوذ والجشع والبحث عن الثورة.

تلستوي قال أن حالة الاستعداء المزعومة والمتوهمة هي التي تفترض العداء وتورث الكراهية وتجعلنا نعيش صراعات أبدية.

ومن هنا رأى أن محمدا الرسول قدم خدمة جليلة للمجتمع الإنساني بأن جعل أمة بأكملها تجنح للسكينة وتؤثر عيشة الزهد.

فالإنسان الذي يؤثر السكينة لن تكون لديه رغبة في استعداء الاخرين أو قتالهم. ومن يؤثر الزهد لن يقيم حروبا من أجل العدوان على حق غيره. وبذلك تنتهي أسباب الصراع في العالم والتي تكمن هناك بداخل أعماق النفس البشرية.

الآن ، هل ما نفهمه ونمارسه من ديننا يدعو للسكينة والزهد، أم يحفز على العداء والكراهية !

إجابة السؤال تحدد موقعنا من فهم الدين ودوره في الحياة.

*

الفيلسوف والمصلح الديني "كالفن" وضع نظريته على أساس: العمل كوسيلة للخلاص الديني.

أجد هذا واضحا في الحديث التالي من كتاب الإمام مسلم والذي يسير معنا في ذات السياق.

يقول الرسول في أكثر من رواية أنه في كل يوم تطلع فيه الشمس على كل جزء من جسد الانسان صدقة.

فيسأله الرجال، أرأيت إن لم يجد مالا؟

وهنا يضع الرسول البدائل التي تمثل الصدقات.

فيقول :

تعدل بين اثنين .. تعين غيرك على دابته .. الكلمة الطيبة .. تعمل بيديك فتنفع نفسك .. تمسك عن الشر.

راجع كافة تصرفاتنا اليومية وقارنها بالحديث الذي يحض على "العدل" و "العمل" و "مساعدة الناس تطوعيا" و "إمساك عن الشر" . ستكتشف أننا في مجتمع ترك الإسلام منذ عقود. بينما تمسك بمظاهره لإخماد ضميره، والتي يساعده المشايخ في تضخيم تلك المظاهر كي تتحول إلى عملة رديئة تطرد العملة الجيدة. وفقا لقانون الصرف عند الاقتصادي جريشام.

هذه الروايات تصلح لأن تكون الضمير الجمعي للناس كما عند دوركايم . وتصلح لأن تكون ميثاق أخلاقي يتعلق بالعمل والانتاجية والعطاء كما عند كالفن. وتصلح لأن تنشر حالة السكينة في النفوس لتجنب ويلات الصراعات الكبرى كما عند تولستوي.

يذكر أن البشرية في الألفي سنة الأخيرة بعد الميلاد ، قد شهدت صراعات لمدة 1790 سنة ، ولم تشهد سلاما إلى مدة 220 سنة فقط، رغم وجود ثلاثة أديان كبرى ، و 8900 معاهدة دولية. وفقا لمعهد بحوث هايدلبرج الألماني.



اقرأ المقال علي بوابة الوفد الاليكترونية الوفد - لن ينتصر الرسول

هنا يجلس عم عادل


هنا بيته ومحل رزقه ومكان نومه وصحوه . كرسي بلاستيكي باهت ومتهالك ومنضدة خشبية تقف على ثلاثة أرجل سليمة وتتعكز على قدم رابعة مركونة فوق حجر . إنه يملأ الولاعات الغاز طيلة اليوم . ينتهي ببضع جنيهات يأكل بها لقيمات وجبته الوحيدة . ثم يضع شالا فوق رأسه عند غياب النهار ويغمض عينيه حتى الصباح .

لاحظته وتيقنت من أنه لا بيت له . تحدثت معه . سألته عن حاله وبيته وماضيه الحزين ولماذا انتهى به الحال الى هنا . فوق كرسي على جانب الطريق .

قال أنه صانيعي رخام ماهر . ولكنه وقع من فوق السئآلة منذ خمس سنوات وكسر أنفه وشج رأسه وتأذت قدماه بشدة . إنه في الستين من عمره ولا طاقة له بعمل يدوي آخر . ولا طاقة له أن يبدأ حياته في أي طريق آخر . لقد ماتت زوجته التي تحملت معه مشقة الحياة . وتهدم بيته القديم الكامن في منطقة القلعة ولا توجد إمكانية لإعادة البناء .

وتلك الغرفة الرطبة التي أقام فيها لسنوات طرد منها لعدم دفعه الأجرة لعدة شهور متتابعة . فوجد في الطريق مأواه . هنا يجلس رجل بلغ الستين ولا بيت ولا زوجة ولا مورد رزق .

آذان المغرب يدوي في كل مكان ليذكرني أننا في مجتمع مسلم .

خطواتي المثقلة بالهموم تقودني الى حيث النداء . على باب المسجد أقف وأنا اتسائل لماذا نصلي إذن طالما أن تلك هي آثار الصلاة على مجتمعنا . مجتمع رأسمالي متوحش قائم على النزعة الاستهلاكية والأنانيه واختفت من داخله قيم التكافل والتراحم والإيثار . أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة !! مجتمع أنهكه حكم ظالم تحت يد طغاة وتبديد للثروات وسوء إدارة , ورجال دين نصفهم يغرد داخل السرب ونصفهم الثاني يحدثنا عن الثعبان الاقرع وعن عدة المطلقة وطهر الحائض ونقاب المرأة .

دخلت لأصلي وانا غير مقتنع . تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة وصمت مؤقت ثم قراءة آيات متتالية . بضع دقائق . ثم تسليمة الختام . المسجد به أجهزة تكييف مركزية باهظة الثمن . وبه سجاد فاخر تغوص فيه رأسك وقدماك . القبلة منحوتة من الرخام الفاخر وماء الذهب نقشت به الألواح . اسم الله واسم محمد .

ألم يكن الاجدى أن نصلي في مساجد من طوب لبن وأرضية من الحصى – وتلك سنة النبي – وندخر هذه الملايين لناس تبيت في الشارع . عم عادل أحق بالاموال من بيت الله . عم عادل أحق بالاموال من الحج والعمرة وأزياء المحجبات .

خرجت من المسجد وأنا ناقم على كل شيء . وتساءلت . هل هذه صلاة مقبولة فعلا !!

الأربعاء، 27 مارس 2013

العالمين والناس




----

أول آية في القرآن الكريم يا ريم بعد البسملة، هي "الحمد لله رب العالمين" وآخر سورة في القرآن هي سورة "الناس" . القرآن يبدأ بالعالمين وينتهي للناس. لماذا إذن يصنعون منه نسخة محلية خانقة لا تصلح إلا لساكني القرية أو الريف أو البادية!

إنه لا يخاطب فئة أو طائفة أو جماعة بعينها. لا يتحدث للعرب أو المسلمين أو المؤمنين، فدائرته أوسع من ذلك بكثير. وجاء بمنظومة فكرية تسع كل الناس وك
ل العالمين، وتلائم تغير ظروف الزمان وعوامل المكان. نسخة تليق بالتاريخ والبشر والجغرافيا. تصلح لمن يسمع بيتهوفن أو فيروز أو النقشبندي أو الروك أند رول.

ولذلك كانت الاستثناءات فيه أكثر من القاعدة. إن لم تستطع الصيام فعدة من أيام أُخر وإن لم تجد الماء فاستخدم التراب ولو لم تجد الوقت اجمع الصلاة كي لا تتركها. ولو كنت ستهلك فكل الميتة ولحم الخنزير. فلم يجعل في الدين من حرج أو عنت أو مشقة. إنه يرافقك ويترفق بك ويبحث لك عن حلول ويضع لك دوما البدائل. ويحنوا عليك ولا يضع عليك الأغلال.

ونزل بكلمات عامة وبسيطة ومفهومة تدعو لفضائل الأعمال والسعي في الأرض وطلب الرزق والكف عن تلويث البيئة والتكافل والحب.

وجاءته الجارية فاختبرها بكلمتين ثم حكم عليها بالإيمان المباشر وتركها لربها، ويجيئه الأعرابي يسأله عن الدين فيجيب بكلمات بسيطة ثم يتركه لفطرته وحياته ومشاغله. لا يرهق أحدا ولا يلاحق أحدا ولا يتتبع أحدا بكثرة الجدل.

وينهاهم عن كثرة السؤال والقيل والقال وإضاعة المال. وتكون أفضل الاعمال كلمة حق أو شهادة حق أو كلمة طيبة أو كلمة مسؤولة أمام سلطان جائر. ليكون ديننا دين "الكلمة" . إبراز أهمية الكلمة وشرف الكلمة والوفاء بالكلمة. الوفاء بالعهد والعقد والأمانة والحقوق. وكلها كلمة.

وتفهم نوازع الضعف البشري وما يمليه من هوى وزلل وخطأ. وجعل التوبة بادئة لصفحة جديدة، وجعل التطهر من الذنوب بأبسط الطرق، مجرد وضوءك لصلاة.

ووضع قاعدة أن الحسنات يذهبن السيئات، لو لم يكن من الخطأ بد، حسنا، لتفعل مقابل كل خطيئة الف حسنة ومقابل كل ذنب ألف طاعة. لتكن إيجابيا ولا تدع الإحباط واليأس يؤثر عليك. وحتى يحول المخطئ إلى طاقة عمل وإنتاج وعطاء بدلا من يأسه واكتئابه وانزوائه.

فالله يثق فيك، لذلك أعطاك عقلا هو أعظم ما في الكون. ويحبك، لذلك جعل المغفرة والعفو هما الأساس. ويترفق بك، لذلك جعل خاتمة رسالاته عنوانها : تخفيف ورحمة.

دعينا نغادر الدين الوضعي يا ريم إلى الدين الإلهي. نغادر دين الأسلاف والفقهاء والحواشي والفروعيات والجدالات ونعود إلى نور ورحمة وهداية وعمل ومغفرة وجنة.

نسيت أن أقول لك يا فتاتي، أن الله تحدث في القرآن عن الجنة بوصفين؛ جنة الدنيا وجنة الآخرة . جنة الدنيا هي العمل والزراعة والإنتاج والإنشاء. التي تكون بادئة لجنة الآخرة.. سؤالي يا ريم هل نحن المسلمون ننشئ جنانا أم نخلق خرابا !

تحياتي أيتها الملهمة.


الثلاثاء، 26 مارس 2013

أبنوب ابن عم جرجس الترزي



- إيه يا عم النضارة الكبيرة اللي انت لابسها دي! 

- أنا اللي مختارها. شبه بتاعة دانيال رادكليف. بطل فيلم هاري بوتر، حلوة؟
- انت اللي حلو .. أخبار ماريان إيه؟
- ماريان مين؟
- متصعش، أكيد في ماريان وأكيد بتشوفها وانت رايح درس الانجليزي
- يا عم انا بتكسف أكلم البنات.

- نفسك تدخل كلية إيه يا أبنوب ؟
- أي كلية تخليني اشتغل. أنا مش عايز أقعد في البيت. أخويا الكبير خلص كلية وقاعد في البيت مش لاقي شغل.

- انت في سنة كام ؟
- تالتة اعدادي
- بتحب المدرسة ؟
- مش قوي. العيال لما بتتخانق معايا بيقولولي يا كفتس. يا اللي ريحتكوا وحشة. مع اني بستحمى عالطول والمسيح!
- انت في مدرسة إيه ؟
- السعيدية
- طب تعرف سبب الإسم ؟
- لا
- على اسم الخديوي سعيد . تعرف ان كان راجل كويس؟
- لا .. كويس ليه؟
- دا أول واحد يعطى المصريين حق تملك الأرض .

- يعني إيه؟

- زمان، كانت الارض والبشر والشجر والحجر ملك الخديوي أو الحاكم. وكل الناس شغالة عنده. الخديوي سعيد عمل اللائحة السعيدية وملك الفلاحيين المصريين الأرض. و ألغى الجزية عن المسيحيين.

- يعني إيه الجزية ؟

- أضربلك مثال. يعني مثلا أوصلك كل يوم المدرسة وأخد منك مرتب آخر الشهر . ولو انت حبيت تروح المدرسة لوحدك يبأى متدفعش المرتب . الفارق ان الجزية كانت عشان الحماية . يعني المسلمين هما اللي يحاربوا والمسيحيين يدفعوا مساهمة في الحرب.

- طب ما احنا ممكن نحارب برضوا .

- ودا اللي عمله الخديوي سعيد؛ سمح للمسيحين بدخول الجيش وأسقط الجزية. وعمل مواطنة ومساواة بين المصريين.
- ؟!
- تعرف الخديوي اسماعيل جاء بعده عمل إيه ؟
- لا ..
- أعطى للمسيحين 1500 فدان للإنفاق من ريعها على المدارس ودور العبادة المسيحية.
- الخديوي اسماعيل كان مسيحي ؟!
- ههههههه . لا طبعا ، كان مسلم ، دي كانت خلافة إسلامية .. وتعرف انه عين المسيحيين في المحاكم، وعينهم في أول مجلس شعب مصري سنة 1866 وكان اسمه مجلس شورى النواب. وبدأ يظهر مفهوم كبير اسمه "الأمة المصرية" تمييزا عن الأتراك والأرمن.

طب منفسكش تبأى رئيس وزارة يا أبنوب؟

- لا ياعم المسيحيين مش بيمسكوا المناصب الكبيرة دي.
- مش صح يا أبنوب . أول رئيس وزارة في مصر كان نوبار باشا . مسيحي . كان رئيس النظار.
- بجد ؟!
- آه والمصحف .. و تعرف إن أول برلمان بعد دستور 23 كان رئيسه مسيحي، إسمه ويصا واصف.
- طب والمسلمين كانوا فين ؟!
- المسلمين هما اللي عينوه !
- طب ينفع نروح نعيش مع المسلمين دول . أحسن من اللي بيقولوا عليا معفن . وبعيط ومش بقول لبابا !
- المشكلة في الناس، مش في الدين يا أبنوب.
- هو انت اسمك ايه ؟
- محمد ..
- انا بحبك والله يا عمو محمد . وكان نفسي الأستاذ عماد بتاع الدراسات يشرحلنا التاريخ حلو كدة . عشان انا اصلا مش بحب التاريخ .

- لازم تعرف تاريخ بلدك يا أبنوب زي ما انت عارف الشارع اللي انت ساكن فيه، وزي ما انت عارف طريق بيتك . وزي ما هتعرف ماريان وهتحبها .

تعرف مثلا إن الخديوي عباس حلمي التاني كان عايز يعين تيجران باشا، المسيحي، رئيسا للوزراء . عشان كان كفء وبيحب وطنه وضد الانجليز . في حين إن كرومر كان عايز يعين رياض باشا، المسلم، المهادن!

- هو الخديوي عباس كان مسلم ؟
- أيوه .
- وكان بيحب المسيحيين ؟
- أيوه .
- طب ينفع يبأى هو رئيس الجمهورية ؟
- هههه
- هو حضرتك مسلم ؟
- ايوه
- طب شايفني معفن ؟
- ههههه . لا . يا أبنوب قولتلك المشكلة مش في الدين المشكلة في الناس. هجيبلك صورة واحد هتحبه عشان تعلقها عندك في أوضة النوم . اسمه اللواء فؤاد عزيز غالي قائد الكتيبة 18 مشاة في حرب العاشر من رمضان . وهو اللي حرر القنطرة شرق ودمر القوات الإسرائيلية . وكان مسيحي , أسمر , مصري .. زيك!

تعالى نتصور .

- تعالى

- بس قبل ما نتصور أوعدني إنك تبأى رئيس وزارة ..

*
ثم يلمع الفلاش .

باقي حكاية عبير



----------------

وجدتها مرة ثانية على الرصيف . وقفت على بعد خطوة وتركتها تتحدث ..
...

" انت عايز الحقيقة ؟ أنا كنت شاربة سم فران وعايزة أموت."

" كنت عايزة أعذب أبويا وامي في التربة بذنبي . جابوني ليه من غير ما يعرفوا ظروفهم ، وإن كانوا هيعرفوا يوفرولي أوضة أعيش فيها ولا أفضل مرمية في الشارع زي الشرموطة أو اللقيطة."

" محدش بيطيق حد دلوأت . لو قعدت عند حد يومين مش هيستحملني التالت "

" أهلي وحشين . معاهم على قلبهم ومش راضيين يدوني أوضة وصالة أعيش فيها "

" أنا عارفة انك كتبت عني . اختي قالتلي . شكرا يا استاذ انك اهتميت . انا عمر ما حد سأل عليا "

- أجيبلك أكل يا عبير؟

" لا شكرا انا لسه متعشية . انا ببيع مناديل واجيب أكل "

- عايزة ايه يا عبير ؟

" أوضة وصالة أتلم فيهم "

*

ألتفت عنها وأنظر إلى حيث العابرين . وأشعر بانعدام الحيلة . الغريب أن هناك سيارة "باجيرو" رباعية الدفع ، لا يقل ثمنها عن نصف مليون جنيه ، تقف على بعد أمتار ويقف إلى جوارها شاب في العشرين يتحدث لأصدقائه الأثرياء ..

أريد أن أصرخ في الناس ، وفي العابرين .. أصرخ في رجال الأعمال . في المشايخ . في المسلمين والمصريين الذين قست قلوبهم فصارت كالحجارة أو أشد قسوة. ثم يزعمون أنهم مسلمين .

الرسول نفى الايمان عن رجل يبيت ليلته شبعان وجاره جائع . مجرد أن تأكل وجبة مستحقة وغيرك لا يجدها في بيته فأنت غير مؤمن .. جارك الجائع له بيت على الاقل !

الرسول قال أن من يخون وعوده ويعتاد الكذب يصير منافقا ، ولو صام وصلى وزعم أنه من المسلمين !!

إسلامك في خطر لمجرد خيانة الوعود والكذب . فما بالك لو ضاعت انسانيتك وفقدت القدرة على التكافل والتراحم وانقاذ المحتاجين . وقتها لن تسعفك صلواتك وحجك الى البيت الحرام كل عام .

شركات السياحة تحقق ارباحا ضخمة من السياحة الدينية !! فنادق خمس نجوم تحيط المسجد الحرام بينما مشردون ينامون في الشارع .. لحم الناس مرمي على الرصيف وانت تطوف خاشعا حول البيت العتيق .. هل تظن أنها مقبولة يا صاح !

ومع ازدياد المظاهر الدينية تزداد القسوة والظلم والفروق الطبقية والترف والبذخ في الاستهلاك . وفي نفس الوقت هناك من يموت على بعد أمتار.

الغريب ان وزارة السكان تقول أن مصر فيها 4 مليون وحدة سكنية فارغة ومغلقة ، نظرا لأن أصحابها يملكون غيرها .. بإضافة الوحدات الصيفية التي تظل شاغرة طول العام عدا شهري صيف يصير العدد 8 مليون .

نحن أمة معرضة للخطر العقيدي .. نحن على وشك فقد اسلامنا . حتى لو دارينا ذلك بمظهر مخادع من الطقوس والمظاهر . قلوبنا ماتت . والظلم يزداد . والفساد يضرب الوطن . والمعاناة تزيد .

تقول التقارير اننا فقدنا 150 مليار دولار في عمليات الخصخصة في السنوات الاخيرة . و 40 مليار دولار حجم الرشاوي والعمولات في مجال التشييد والبناء والبنية التحتية . و 50 مليار دولار اختلاس في قطاع الطاقة ، كانت كفيلة بنقلة نوعية في الاقتصاد المصري .

من قام بكل هذا الفساد هم مصريون مسلمون يقيمون الصلوات .

ومن سكت عن هذا الفساد مسلمون أشد استمساكا بمظاهر الدين .

وكلما زاد حجم التدين الظاهري كلما زاد حجم الفساد والظلم والسرقات والأنانية والطمع . وكلما قلت المساحات الانسانية من تراحم وعطف .

*

الله في كتابه ، يتحدث في سورة الماعون ، عن الذي يكذب بالدين . أي أنه اقترف أشد الكبائر وهي الكفر . وفي نهاية السورة يورد آية ( الذين هم يرائون . ويمنعنون الماعون ) .

فالرياء يرد على عمل ظاهره صالح ، ولكن صاحبه فاسد القلب يقصد أعين الناس ولا يبتغي الخير ذاته . العمل الصالح مع قلب فاسد يهلك صاحبه . فما بالك بمن فسد عمله وقلبه !!

ويمنعون الماعون . والماعون هو أدوات البيت كالإناء والطبق والمخيط "الإبرة" . وهي صورة بدائية لشخص لا خير فيه لا يساعد الناس حتى بأدواته المنزلية البسيطة !

تخيلوا يا سادة ، من يمنع الماعون ، وهي أدوات بسيطة جدا ، مذموم في سورة بدايتها تتحدث عن الذي يكذب بالدين . فما بالكم بمن يمنع مئات الألوف !

ديننا هو دين الصدقة بشق تمرة .. أي صدقة الفقير قبل الغني .. صدقة نصف المال .. القليل والكثير .

بالمناسبة كلمة شق تمرة هذه وردت في أول خطبة للرسول بعد دخوله المدينة قادما من مكة . خطاب العرش . تدشين الجمهورية الأولى في الإسلام . كان من خلال خطبة قصيرة للغاية لا تتجاوز كلمات قليلة . ختمها الرسول ، بالصدقة والعطاء بشق تمرة . لحث الناس على التكافل والتراحم وإحياء الخير في قلوبهم . ثم قال ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة.

انظر للمجتمع المصري .. هل ينتشر فيه التراحم والتكافل والعطاء ، الذي هو عنوان الدين .. وهل علاقة الناس ببعضها قائم على : الكلمة الطيبة ؟؟

إجابة السؤال تحدد موقعنا من الاسلام .. أكرر نحن غالبا لسنا مسلمون والله .

*

نظرت لعبير قبل أن أغادر وقلت لها : حاولي تصلي يا عبير . ربنا رحيم .

نظرت لملابسها في حزن ، ومررت أصابعها فوقها ، وقالت : بس هدومي وسخة .. الصلاة محتاجة نضافة !

قلت لها : ربنا مش بيبص ع الهدوم يا عبير ..

قالت لي : لما ألاقي هدوم نضيفة هصلي .

قلت لها : اوعديني متعمليش في نفسك حاجة وحشة تاني .

قالت : أوعدك .

قولي والله .

والله .

مع السلامة يا عبير .

مع السلامة يا أستاذ .

*

مجتمع ضاع إسلامه من خلال رجال الدين . وضاعت أمواله بسبب جشع رجال الاعمال وكبار الموظفين . وضاعت مؤسساته الكبرى المسؤولة عن الناس بسسب اقتتال جماعة "ربانية" على السلطة من أجل تمرير الإستبداد والمكايدة السياسية .

أمة في خطر

وبالانجليزي

nation at risk

بالمناسبة ، دا كان عنوان تقرير صدر في أمريكا أثناء رئاسة جون كيندي بعد أن صعد الروس إلى خارج الغلاف الجوي قبل الأمريكان . وكان مكمن الخطر أن مناهج الفيزياء والرياضيات الحديثة في التعليم ما قبل الجماعي تحتاج إلى تطوير . وصار الأمريكان كلهم يعيشون في قلق وحزن لأنهم "متأخرون" علميا عن الروس . ولم يهدأ لهم بال ، مجتمع وقيادات ، إلا بعد أن غزو الفضاء بشكل أكثر تطورا . ووضع علم أمريكا هناك . حيث النجوم !

أترانا خير أمة أخرجت للناس !!

الأحد، 24 مارس 2013

حكاية عبير محمد عباس




*
كنت أظن أن حكايتي القادمة ستكون في حي الدقي. إنه حي مثالي جدا لما أبحث عنه. ولكن يبدوا أني لم أحسن الظن، فحكايتي كانت تقف في منطقة أخرى تنتظرني مثل القدر، على بعد كيلو مترات.

حي الدقي يحوي بقايا فيلات العهد الملكي المزدوجة الطوابق ذات الجراج الخاص والحديقة الأمامية، وإلى جوارها الكتل الخرسانية القبيحة المتمثلة في أبراج شاهقة الارتفاع في شوارع لا تسمح بهذا العدد من الطوابق؛ بما يمثل زحاما وضغطا على البنية التحتية. القمامة تحاصر المكان.

بلدنا تحتاج إلى مدير برتبة فنان. الإدارة الجيدة والإبداع ينقصان مصر بشدة.

لاحظت امرأة ثرية تهبط من سيارة بي إم دبليو الفئة السابعة، ويهبط معها من الكرسي الخلفي كلبها الأسود فصيلة بت بول المميزة بقوة الفكين . البت بول يكتئب لو مكث في البيت عدة أيام، لذلك يجب تمشيته بشكل منتظم حفاظا على نفسيته. لا أمزح تلك حقيقة!

على بعد أمتار تقف سيدة عجوز تتسول بصوت ضعيف جدا. لا أدري إن كانت تستحق أم لا ، ولكن ما أثق فيه أنها لا تستحق وقفة مهينة كتلك . وجهها يحمل مسحة جمال غابر، ربما حينما كانت صغيرة كانت مرغوبة وتعيش حياة كريمة ، ولكن توالي الدهر جعلها هنا.

اقتربتُ من السيدة الثرية واستأذنتها في صورة مجمعة . هي والكلب وأنا والمتسولة . ولكنها نظرت لي بغضب على طريقة: توقف عن الهراء أيها المخبول الوقح.

لو باعت السيدة الثرية سيارتها الـ بي إم الفئة السابع واشترت بي إم الفئة الخامسة ففارق السعر يجلب شقة تمليك لمتسولة عجوز تستحق. وجزء من النفقة على إطعام الكلب ودواءه والاكسسوارات الخاصة به يكفي لمعيشة تلك العجوز!

قرأت أن نفقات الحج والعمرة كل عام في مصر تصل إلى مليارات. توسعة الحرم الشريف تكلفت في جزء منها 30 مليارا. ما هذه الأرقام !! اطمأنوا لن ينال الله من شعائركم شيئا طالما هناك ظلم وفقر.

مشيت من دون الصورة المرغوبة وشعرت أن قصة مهمة قد فسدت.

وفي طريق العودة حدث ما لم أكنت أتوقعه.

*

أحب أن أمشي إلى البيت في المساء لمدة تقارب الساعة. وأثناء عبوري بميدان الجيزة. وجدتها.

تشبه المتسولين بملابسها المتسخة ، وأطراف جسدها السوداء نتيجة المبيت في الشارع لأيام ، وعدم مرور الماء فوقها لأسابيع . ملقاة على جانب الطريق مغمى عليها وإلى جوارها شنطة يد صغيرة وحذاء.

الناس يمرون دون أن يتوقفوا وكأنهم ألفوا تلك المشاهد. بعضهم ينظر لها بشفقة وبعضهم ينظر لها بحذر وبعضهم ينظر لها بامتعاض، ولكنهم جميعا يذهبون. وقفتُ إلى جوارها وتحدثت معها. ولكنها لا ترد.

حاولت الضغط على عينها برفق حتى تفيق ، فتحت نصف عين واهية مصابة بالدوار.





- انت مالك ؟
- مفيش
- أجيبلك أكل ؟
- لا
- أجيبلك فلوس ؟
- لا
- طب عايزة إيه ؟
- عايزة أموت
!

- إسمك إيه ؟
- إسمي عبير
- طب قومي يا عبير أوديكي المستشفى.
- مش قادرة أقوم
- طب اقعدي طيب.

تستند إلى يدي وتحاول الاعتدال فيغلبها القيء. جزء على ملابسي وجزء على الأرض. عصارة معوية صفراء تدل على أن بطنها لم يدخلها الآكل منذ يومين على الأقل.

أقف إلى جوارها فاقد الحيلة.. ماذا أفعل بها ومعها .. هل أتركها وأمشي ! هل أعطيها بعض المال وأجلب لها طعاما وأمشي ! يتجمهر بعض الناس وينصحوني بالمغادرة . أحدهم يقول لي ربما هي تحت حماية بلطجي ويأتي ليتشاجر معك ويتهمك بأي شيء. ربما هي سارقة والشرطة تطاردها..

- "ياعم سيبها في حالها وامشي ، انت شكلك ابن ناس"

*

نظرت لها فوجدتها دخلت في إغماءة جديدة.

نبضات قلبي تتسارع وتغلبني مشاعري .. تذكرت مقولة اسبينوزا: لو حدث لك أمر جلل فلا تضحك أو تبكي، لكن فكر.

الفلسفة مفيدة أحيانا ..

أخرجت الموبايل واتصلت بالإسعاف 123. إنها المرة الأولى التي أجرب فيها الخدمة.. في البداية رد على صوت مسجل يحذرني لو كنت معاكسا أنه سيتم إيقاف الرقم. أكملت الاتصال وتحدثت مع المسعف ووصفت له المكان . أغلقت الهاتف وجلست إلى جوارها على الرصيف. إنها تخرج من أنفها وفمها رغاوي غريبة تشي بامرأة تفقد الحياة.

أنظر إلى السماء وأفقد صوابي . أصرخ ، أين أنت يا رب ، لماذا تتركنا هكذا. امرأة تموت على الطريق في العاصمة وعلى مسافة من فيلات وقصور ومستشفيات خمس نجوم ، وعلى مرمى حجر من قصور تحكم مصر . لو كنا في الصعيد أو الريف أو الواحة ربما سامحتهم ، ولكنا في قلب أقدم عاصمة في التاريخ.

مر رجل وقال لي لا تنظر إلى السماء وأنت تدعوا الله، لأنك بذلك تحيز الله في السماء، والله ليس متحيز!! سببته بأمه وكدت أن أقتله ، ففر هاربا ظنا منه أني مجنون.

السماء ليست فوق، السماء محيطة بالأرض لأن الأرض معلقة في الفضاء وسط السديم. ولكن الإنسان ينظر فطريا إلى أعلى وقت الأزمة ، ليس وقت حزلقة عقائدية ساذجة وليس وقت علم الفلك. هناك انسان يموت ؛ ما وظيفة العقيدة وما وظيفة العلم إن لم يحميا الإنسان من مصير كهذا !!

وأثناء ذلك سمعت صوت الإسعاف ، سارعت إلى منتصف الطريق وشاورت لهم بيد مرتفعة وتوقفوا.

نزل المسعف ونظر للمرأة. سألني، هل تعرفها ؟ قلت لا . فقال "أنا آسف يا باشا مش بناخد متسولين عشان بيعملوا مشاكل ، وبييجي بلطجية بعد كدة تكسر المستشفى."

قلت له بحدة : الدستور المصري الجديد الذي حاز أغلبية "نعم" يقول أن الرعاية الصحية حق لكل مواطن. ودي حالة ينطبق عليها الدستور. وإذا مأخدتهاش هرفع عليك قضية وأفصلك من شغلك."

رد بصوت مرتبك : والله العظيم نفسي أخدها، هو انا هشيلها على كتفي، بس الدكاترة في المستشفى محَرّجة علينا منجبش متسولين وبيجازونا على كدة."

قلت له اتصل لي بأي دكتور ولو رفض هدخله السجن ، لو كان سعيد الحظ.

قال لي ، ترضى تيجي معانا وتضمنها على مسؤوليتك ؟

قلت له أنا معك.

حملنا المرأة ، ووضعناها في الإسعاف .



بدأت تفيق . كان معي قطعة شيكولاتة أعطيتها لها فرفضت ، فقط قالت "أنا بردانة. عايزة أتغطى."

تحدثت معها..

- عندك كام سنة يا عبير ؟
- عندي 40 سنة
- انتي متجوزة ؟
- متطلقة
- معاكي بطاقة شخصية ؟
- أيوه . اتفضل . انت هتسيبني ؟
- لا أنا معاكي متخافيش
- شكرا ربنا يخليك يا رب.

المسعف الذي يركب معي متوتر جدا. يقول لي: دي أول مرة من 12 سنة شغل في الإسعاف أشوف حد مهتم بمتسولة في الشارع . دي الناس بتسيب أقاربها وتمشي يا باشا يبأى هتقف لوحدة ست شكلها يخوف زي دي ! والله انت ربنا هيكرمك، بس لو حصلت مشاكل هقول انك انت اللي هددتني."

نظرت له ولم أرد . ثم فتحت كتابا في يدي وقرأت منه ..

" .. ثم أعد نفسه جيدا، جمع ما بقى من امبراطوريته جيشا يفوق في العدد جنودي عشر مرات.. لم يفهم أبدا أن العدد لا يعني شيئا ، وهذا درس تعلمته من فيليب أبي : يمكن أن تحكم الناس بالقمع والخوف، لكن الخائفين لا يمكن أن ينتصروا في حرب .

" .. في ساحة القتال يجب أن يكونوا أحرارا؛ يجب أن يقهروا خوفهم بإرادتهم لا بأوامر قادتهم .. تعلمت أن الشجاعة ليست غريزة بل هي بالضبط قهر الخوف القابع في كل نفس ، فضربت لجنودي المثل ، لا أصدر الأوامر بل أقف في المقدمة في كل المعارك مشهرا سيفي أطعن وأتلقى الطعنات ويسل الدم من كل مكان من جسدي ، لكني واثق من النصر . والإقدام يعدي، فأجد جنودي يندفعون ورائي للنصر أو الموت .."

الناس في الشارع خائفون من مساعدة متسولة. المسعف المسؤول خائف. ولما دخلت المستشفى وجدت طبيبة شاحبة مترددة. ولكن إصراري كان كاسحا. ما هي قيمة الحياة لو تركنا امرأة مسكينة كتلك لمصيرها الأسود. ليختصي الرجال ولتعقم النساء من بعد.

الإسلام الذي يتحدثون عنه ليل نهار، يقول لنا أن الكلب والقطة يدخلان الإنسان الجنة أو النار؛ فما بالك بإنسان !

هنا مستشفى حكومية مملوءة بالبؤس وخالية من الإمكانات. الممرضات عابثات والطبيبة تتحدث في الهاتف والممرض يدخن سيجارة على خلاف القوانين . هنا وضع مخيف ومؤسف يشرح حالة مصر وما فيها من عشوائية وظلم طبقي وإهمال وفشل في إدارة الدولة والموارد. ثم يتقاتلون على السياسة أو فروعيات الدين . لعنة الله عليكم جميعا .

دخلنا إلى غرفة بها بضعة أسرة قذرة ، استندت عبير على يدي ثم ارتمت على إحداها. كشفت عليها الطبيبة كشف ظاهري بقرف وامتعاض واضحين، ثم كتبت لها محلول وبعض الحقن.. جاء التمريض وبدأ في تعليق المحلول. فشلت الممرضات في البداية في الإمساك بيدها لإدخال السن المدبب للكالونة، فطلبوا مني المساعدة .

اقتربت من رأسها ووضعت يدي عليها وحاولت الابتسام ، ثم قلت لها قولي يا رب .. قولي حسبي الله ونعم الوكيل .. متخافيش يا عبير مش هتوجعك.

خرج التمريض ووقفت الى جوار السرير انظر لعينها التي تغيب عن الوعي وإلى قطرات المحلول التي تنساب في أنبوب شفاف.

وسرحت بعيدا .

*


نحن لا ننتمي لآدم أبو البشر، على الأرجح ننتمي لآدم سميث أبو الرأسمالية.

أتذكر عباراته الشهيرة في كتبه عن ثروة الأمم " الإنسان كائن اقتصادي

ECONOMIC MAN

يسيطر عليه حب الذات. والثراء هو الوسيلة الوحيدة لإثبات ذاته. ويتحرك بوازع الربح ."

ثم أتذكر عبارات مالتس خبير السكان الأنجليزي الأشهر، الذي بنى نظريته على أساس: أن الفقير ليس له حق أمام الطبيعة لأنه لم يستأذنها في وجوده . وعليه أن يرضى بقسمة الفقراء ."

للأسف المجتمع الإسلامي تخلى عن أصول الدين وما فيه من تكافل ورحمة وإيثار ورعاية وتحلى بقسوة النظريات الغربية حتى لو لم يكن يعلمها . تلك وظيفة الدعاة ورجال الدين . تلك وظيفتهم التي تركوها وتفرغوا للفضائيات والصراعات التافهة والفقه الفروعي. فكانت عبير هي النتيجة . الغرب بدأ يفيق لقسوة تلك النظريات وأخذ يطعمها بنظريات إنسانية أكثر رحمة وعناية ، بينما نحن نسير إلى الهاوية.

مر بعض الوقت . وبدأت حالة عبير في التحسن .

نظرت لي وقالت: امشي انت يا أستاذ ، شكرا على اللي عملته معايا . انا أهلي معملوش معايا اللي انت عملته . انا سبتهم وهربت عشان بيضربوني وبيشتموني .

ظللت إلى جوارها حتى نامت، خرجت و أوصيت الطبيب النبطشي وهيئة التمريض عليها . ثم تركت المستشفى وغادرت .

وعند أول حائط مظلم أفرغت ما في بطني . ثم مشيت . لم تحملني قدماي لبضعة أمتار فوقفت . وقعدت إلى الأرض . إلى التراب أمسكه بيدي وأبكي .

تحاملت ووقفت وذهبت إلى بيتي بصعوبة . لا أجد لأي شيء طعم . أشعر بالذنب كلما فعلت شيئا . لا يجب أن أستحم أو أرتدي ملابس نظيفة أو آكل طعاما ساخنا أو أنام على فراش لين . كل ما أفعله حرام . كل ما نفعله حرام .

الفقه الإسلامي عندما يتحدث عن الولاية للقاصر أو اليتيم أو المحتاج ، يقول أن السلطان ولي من لا ولي له.

رسالة : عبير أحمد عباس في مستشفى بولاق العام يا دكتور مرسي . وهي لديها مشاكل وتحتاج من يحلها . ربما تغادر وتعود إلى الرصيف . ولكن هناك آلاف الأرصفة تسكنها آلاف "العبيرات" . والدستور يحتم على الدولة أن تجد سكنا ملائما للمواطنين.

أنت من طلب كرسي الحكم يا دكتور مرسي . وأنت من فرضت الدستور لتصير مصر دولة مستقرة ! إذن لا مسؤول أمامي غيرك.
 

لا تقتلوا ياسمين ..

                       
                       (صورة تعبيرية)

* * *

ياسمين , فتاة سمراء نحيلة , وملامح وجهها يظهر سوء تغذية حاد .. حذائها مشقوق وملابسها باهتة ومكرمشة , ويداها الخشنة تظهر معدلا كبيرا من الفقر والشقاء .

تذهب الى المدرسة الثانوية التجارية ثلاثة ايام , وتخدم في المنازل بقية الاسبوع .. تنفق على نفسها بشكل كامل وتعطي الباقي لأمها التي تخدم في الايام التي تذهب فيها الى المدرسة .

منذ أن خرج أبوها من السجن وهو بلا عمل .. لا
يكف عن الشجار في البيت , ويضرب أمها لو لم يجد أموالا لشراء البانجو .. نصف اليوم يجلس أمام المنزل يدخن ويسعل ويتنخم ويبصق .

حاول أن يكون بلطجيا , ولكن مع أول مرة قام فيها "تثبيت" أحدهم بمطواة قديمة كان يحتفظ بها منذ سنين , وقع حظه مع شاب قوي البنية يمارس رياضة الملاكمة , فأوسعه ضربا وتسبب في كدمات زرقاء حول عينه وبجوار فمه .

حظه سيء في كل شيء .. منذ سنوات كان يقوم بسرقة أحد المخازن ومعه ثلاثة من رفاقه , وحينما جاء الحارس فروا جميعهم , ولكنه , لسبب ما , تعثر في سلك الكهرباء الممدود على الارض , فوقع على وجهه وقبض عليه .

في المساء تفتح ياسمين الراديو الصغير الذي تمتلكه وتسمع الأخبار .. لقد خرجت في الثورة وذهبت لميدان التحرير وهتفت مع الشباب القادم من مصر الجديدة ومدينة نصر , وتصدت للبلطجية في موقعة الجمل بشجاعة .

خلعت طرحتها في الميدان وجعلتها ضمادة لرأس أحدهم كان ينزف بشدة , حاول الشاب ان يرفض كي لا يُكشف شعرها , ولكنها قالت له أنها تفتخر لأن حجابها سينقذه , وأنها لا تخاف وهي وسطهم من دون "إيشارب" . وذهبت الى بيتها مرفوعة الرأس تعانق النجوم .

لم تشعر بالخجل يوما من فقرها ولا تنظر بحقد الى أحد .

سمعت ياسمين الشيخ محمود الازهري وهو يقول أن يكون سن الزواج للفتاة عند التاسعة .. صرخت وقالت لي حينما قابلتني : " يا دكتور ارجوك قل لهم ألا يفعلوا .. الفقرا ممكن يبيعوا عيالهم بتراب الفلوس .. دول ميعرفوش احنا عايشين فين وازاي .. ربنا مش عايزنا جواري , دا الرسول جه عشان يحرر العبيد ويدافع عن المظلوم ويعيش مع الفقراء .. الفقراء اللي زينا ."

ثم نظرت نحوي بعين دامعة ومنكسرة , وهمست بصوت مخنوق : " نفسي أكمل تعليمي وآخد دبلوم تجارة , ويبأى معايا شهادة زي عبير بنت خالتي .. ولما اتجوز هشتغل والحس البلاط عشان بنتي تخش الجامعة " !*بعض الناس يظن أنه يمكنك التقاط نص من قرآن أو سنة ثم اصدار حكم فقهي بالحل أو الحرمة بشكل مباشر دون الدراسة المتأنية لطبيعة النص في ضوء القواعد الكلية التي اتفق عليها الاصوليون وقواعد العقل والمصلحة .

يحفظ نصا واحدا يرميه في وجهك دون أي فهم أو رشد .

هل يجوز للفتاة أن تتزوج في سن صغيرة بمجرد بلوغها سن المحيض أو حتى قبل المحيض ( مضاجعة الصغيرة ) ؟؟

ثار السؤال في الجمعية التأسيسية للدستور , ودافع رجال الدين السلفيين عن هذا الحق , وأنه لا يجب تقنين سن الزواج أو تقييده .. واحتجوا بالآية الكريمة ( واللائي لم يحضن )

بينما الفريق المعارض كانت لديه ضوابط طبية وتعليمية واجتماعية حتى لا تضطر الفتاة إلى إنشاء أسرة وهي غير مؤهلة بدنيا أو نفسيا , وحتى لا يتحول الأمر الى إتجار مقنن في البشر .

ولكن ظل المشايخ – على رأسهم الدكتور برهامي – يحتجون بكتاب الله وبالاية المذكورة .

قبل أن أرد يجب أن اشرح امرا فقهيا اخر حتى تتضح الصورة .. وأنا في غاية الحزن لأن الشيخ ياسر يتحدث بسطحية من لم يدرس أمرا فقهيا من قبل , واستغرب كيف يكون قائدا فكريا لتيار كامل , بل وعضو لجنة صياغة دستور مصر , وإدراكه الديني بهذا المستوى , فما بالك بإدراكه التاريخي أو الدستوري أو الثقافي !!

يتساءل الفقهاء , هل تصح الوصية لوارث ؟؟ هل يجوز للرجل أن يميز أحد ورثته بوصية مستقلة عن نصيبه في الميراث , أم أن الوصية تكون لغير المستحقين نصيبا في التركة ؟

الآية صريحة في هذا الشأن ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت , إن ترك خيرا الوصية , للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) . أي أن كل الاقارب يجوز ان يكون لهم نصيبا من الوصية بغض النظر عن نصيبهم في الميراث .

كيف تعامل الفقه مع تلك الآية ؟

الفريق الاول : التزم بتلك الاية نصا , وقال ان الوصية منفصلة عن الميراث , ويجوز أن يجمع الشخص بين أن يكون موصا له ووارثا.

الفريق الثاني : احتج بحديث للرسول ( ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) . وعطل الآية القرآنية فلم يعد لها محل !! وقال ان الحديث نسخ النص . وهذا فريق كبير من فقهاء الاحناف والشافعية والمالكية .

وبعضهم قال ان هذه الاية نزلت قبل آيات المواريث فكانت الوصية للوالدين والاقربين بديلا عن الميراث , ولكن بعد أن نزلت آية الميراث عطلت تلك الاية وصارت هناك حقوق ثابتة للورثة فتكون الوصية لمن لا يرث .

الفريق الثالث : أخذ بنص آخر للرسول ( لا وصية لوارث , إلا أن يجيزه الورثة ) فيتم توزيع التركة توزيعتين احداهما وكأن كافة الورثة موافقون , والثانية كأنهم رافضون , ثم يعطى كل واحد وفقا لموافقته أو رفضه . وهذا ما يأخذ به القانون المصري .

ثم ما هو مقدار الوصية؟ كل التركة أم نصفها أم ثلثها , وهنا ثار خلاف ثان بينهم , فمنهم من احتج انه في ثلث التركة فلا يجوز تجاوزه وهناك من قال ان الموصي حر في قراره .

اضرب هذا المثل لأبين أن الامر ليس بالحسم الذي يتوقعه البعض لو حفظ آية واحدة أو تعلم حديثا .. وأن النص بيان إلاهي بينما فهم النص وتطبيقه هو عمل بشري , وهو صناعة فقهية متغيرة .

*نعود لقضية الزواج ..

اولا : تلك الاية يتم الاستدلال بها في غير موضعها , فالآية وردت في سورة "الطلاق" .. ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن )

الله يتحدث هنا عن الطلاق وليس عن الزواج , ويريد أن يبين الطريقة التي تتحلل فيها المطلقة من علاقتها بزوجها السابق حتى تتمكن من الزواج مرة ثانية , فيجب ان يمر عليها ثلاث حيضات وفي رأي آخر ثلاثة أطهار , وذلك لاختلاف التفسير حول كلمة "القرء" في الاية .. والتي انقطع عنها الحيض لكبر السن فلتتربص ثلاثة أشهر , واللائي لم يحضن ملحقن بهن .

وهذا الكلام لا يحمل اي تشريع في رأي الدين في سن المرأة المتزوجة , ولكنه يعالج تنظيم شئون الطلاق بغض النظر عما سبق من زواج , لأن الزواج – وفق رأي الجمهور – مندوبا وليس فرضا , ويستقل المجتمع بتحديد شروطه من طبيعة المهر والشبكة والتكاليف والاعباء المادية وطبيعة السكن والحياة وعدد الاطفال .. الخ .

ولما أراد عمر أن يحث النساء ألا يبالغن في المهور قامت امرأة وردت عليه أن هذا عطاء أقره الله للمرأة ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا . وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض ) ولا دخل للخليفة به .. فأقرها على رأيها وأقر خطأه .

( الآية تحمل معنا عظيما , وتصور من يسلب حقوق زوجته المالية بأنه ظالم ويأتي إثما كبيرا !! ثم يقول , وقد أفضى بعضكم الى بعض , في اشارة الى خصوصية العلاقة وأنها قائمة على انصهار المشاعر والهموم وتشابك أسرار النفوس )

ولو عدنا لبعض آراء المالكية في قضية الحيض لتفسير الاية فقد يحل الاشكال , فهم يشترطون مقدارا معينا للمرأة حتى تسمى حائضا , فالتي يكون الدم عندها مجرد قطرات قليلة لا تعد حائضا , ولا ينسحب عليها أحكام الحيض , وبذلك تدخل في نطاق تلك الاية , وهذا لا علاقة له بسن المرأة إنما بحالتها الجسدية .. ايضا من تتعرض لعملية استئصال رحم فهي لن تحيض . كذلك بعض الفتيات يكن لديهن مشاكل طبية في الجهاز التناسلي مما قد يسبب اختلال في وقت الحيض .. وهنا يتدخل الطب ويرفع الدين يده .

دعونا نفترض صحة التفسير القائل أن الفتاة يجوز لها الزواج وهي قبل سن البلوغ , ثم رغبت الطلاق وهي لازالت صغيرة لم تحض , وهنا يتطرق القرآن لشق الطلاق وليس لشق الزواج السابق عليه , والذي لم يتدخل فيه بتشريع , فهو في حكم المسكوت عنه والذي يخضع لقاعدة كبرى اسمها "لا ضرر ولا ضرار" , أي أن كافة احكام الاسلام يجب أن تتجنب الضرر للإنسان أو لغيره .. تلك قاعدة كبرى حاكمة .

حينما يسألون الفقهاء : هل يجوز الوضوء بالماء المغصوب , فيجيب بعضهم أن نعم .. ليس معنى هذا تشريع الغصب , إنما السؤال منصرف الى الشق التالي للغصب , كمعالجة لاحقة حال استحالة إعادة الماء إلى صاحبه , هل يرمى بلا فائدة أم يستغل في شيء نافع ؟ .. وإن ظل الغصب حراما .

ذات الشيء .. الله يتحدث في فرض الطلاق وتحديد أحكامه ولم يتطرق للشق الاول الذي يتحدث عن الزواج .

*ولكنهم أغفلوا أو تغافلوا عن آية صريحة تتحدث عن الزواج , جاءت في سياق مختلف , وهي اكثر دلالة وأكثر وضوحا :

( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم )

هذه الاية تتحدث عن القائم على إدارة اموال الطفل اليتيم . والأمر موجه له . اذا بلغ هذا الطفل مرحلة " النكاح " والرشد فإن له الحق بتسلم أمواله .. ولم يقل يبلغ سن البلوغ , بظهور المني عند الفتى ونزول الدم عند الفتاة . فربط الله بين "النكاح" وبين "الرشد" العقلي والقدرة على تسلم الاموال والتصرف فيها وحسن ادارتها .

اذن الله جعل التماس بين النكاح و الرشاد وبين المقدرة على التصرف في الاموال .. وهنا يتدخل الانسان بتشريعات تفصيلية تحدد سن الرشد وسن النكاح وفقا للأعراف السائدة ومواءمات الزمان والمكان وطبيعة حياة الناس .

لو راجعنا بنود القانون المدني سنجده اكثر تفصيلا في هذا الشأن .. فهو يقر نوعين من الاهلية , أهلية الوجوب : وهي التي تتوافر للشخص بميلاده حيا , فتجوز في حقه التصرفات النافعة نفعا محضا مثل الهبة والوصية , وأهلية الآداء : وهي قدرة الشخص على اكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات والتي لا تكتمل إلا بسن الرشد .

و يفرق بين الصبي المميز الذي تجاوز السابعة , وتكون افعاله قابلة للبطلان لصالحه ( إبطال ) , والصبي غير المميز التي تكون تصرفاتة باطلة بطلانا مطلقا ( بطلان ) .. ثم تحدث عن الصبي المأذون له بإدارة بعض امواله ببلوغ سن الثامنة عشرة , ثم بالراشد الذي وصل سن الحادي والعشرين .

*علماء الأصول يربطون النصوص بالعلل .. الحكم الشرعي مرتبط بالعلة التشريعية التي جاء من أجلها , وهو يدور معها وجودا وعدما , فيجب قراءة القرآن باستنارة وفهم , وعدم التعثر أمام ظاهر النص وتجاوزه الى المصلحة التي يحققها أو العلة التي يبتغيها او القضية التي يعالجها , فيجوز تجاوز ظواهر بعض النصوص مرحليا لغياب العلة التي جاءت من أجلها , أيضا يجوز أخذ الحكمة من النص واعادة تطبيقها في وقائع مختلفة .

الله يقص علينا القصص ويضرب لنا الامثال ليتولد لدينا عقل راشد ونفس مطمئنة وسلوك سوي وأخلاق منضبطة ؛ حتى نتمكن من القياس والاستباط والاستحسان وتقليب الامور على عدة أوجه فندرك الصالح من الفاسد , وما يسبب النفع وما يأتي بالضرر . وتحدث في خطوط عامة وعريضة وترك تشريعات الانسان التفصيلية تنظم الحياة وتحكم الارض في ضوء الهداية التي استلهمتها نفسه من نصوص القرآن وأمثاله وقصصه .

لذلك عطل عمر مصرف الزكاة المتعلق بالمؤلفة قلوبهم لزوال سببها , وكذلك منع المجاهدين من تملك الاراضي المفتوحة أو أخذ الفيء والغنائم منها , رغم أن القرآن أقر ذلك , وكان هدف عمر أن هذا سيؤدي الى زيادة غنى المحاربين وافتقار البلدان المفتوحة .

كذلك عثمان بن عفان توقف عن جمع الزكاة لأنه أدى الى تحايل من قبل البعض وفساد من قبل العاملين الذين يجمعوها وخولها لكل فرد حسب ضميره يخرجها بطريقته الخاصة .. رغم ان هذا مخالفا لسنة الرسول وسنة ابي بكر .

تخلصوا من تعمد التشويه والاجتزاء رجاءا , ولا تكونوا كمن يحمل أسفارا ونصوصا لا يدري معناها و ومبتغاها .. الله شنع على هؤلاء الاغبياء وقال انهم كالحمار يحمل اسفارا .. وفي موضع آخر كالانعام .

الاغبياء لا يدخلون الجنة ..

وستوتة تستحق مقال



*
برنارد شو الكاتب الساخر الإنجليزي الشهير كان ثريا للغاية، وكان يمتلك سيارة رولز رويس فارهة، ورغم ذلك كان من مؤسسي الجمعية الفابية التي هي نواة لحزب العمال قطب اليسار في بريطانيا والمدافع عن حقوق البسطاء والمهمشين. كان الرجل يشعر بمسئولية كبرى تجاه تلك الطبقات التي تعاني أكثر.

يقول هوبز، أن الدولة موجودة لإنهاء الصراع بين البشر بإعمال القانون، وموجودة لتنفيذ متطلباتهم التي يعجزون عن وفائها بأنفسهم. نحن نتنازل عن جزء من حريتنا للسلطة المختصة حتى تستخدم تلك الحقوق في إدارة الوطن وسداد الاحتياجات الرئيسية. وفرق القوة بين المواطن والسلطة هو الذي يخلق فكرة الدولة. وفرق القوة يجب أن يستخدم لصالح الناس ولصالح تلك الطبقات البسيطة قبل أي شيء.

يقول النبي في نهاية حديث، "لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها ولا يتعتعه". الرسول يريد أن يرشدنا الى وظيفة الجماعة، وتتمثل في اقتضاء حق الفقير ورعاية مصالحه والوقوف أمام الظلم والتمييز. طبعا الآية صارت معكوسة، أصحاب السلطة يستخدموها من أجل حماية أنفسهم ومصالحهم و تحقيق مكاسب من خلفها و القضاء على منافسيهم.

ما علينا، ومن امتى الناس بتلتزم بكلام النبي؟!

الانجيل يقول "احبوا أعداءكم " ولكن لا أحد يحب أحدا. والقرآن يقول "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " ولكن كل الناس تكذب وتتحايل وتخون العهود.

*

تلك مقدمة مهمة كي أقول أني مهتم بالبسطاء رغم انتمائي لطبقة برجوازية متوسطة. وأشعر بنعمة الله الحقيقية خاصة عندما أعود الى بلدتي الصغيرة في شمال مصر؛ حيث بيت أبي الذي قضيت فيه عمرا طويلا من التجارب والذكريات.

أصحى من النوم الساعة تلاتة الصبح جعان، أفتح التلاجة عشان آكل حاجة خفيفة، الاصناف متنوعة، بط – محشي – كفتة – بقايا صينية بطاطس، الأمر محير، ويجب ألا أفرط في طعام المساء. وينتهي المطاف بي وأنا غارق في طبق شوربة بلسان العصفور بينما ألتهم اصابع المحشو المكتنزة وأتبعها بقطع من صدر البطة المثير للغاية.

حينما فارقت الاسرة منذ سنين وانتقلت الى العاصمة تعلمت اشياء كثيرة، أهمها أن الفاكهة بتتشرى بالكيلو .. أيوه .. أنا كنت متخيل ان الفاكهة بتتشرى بالكرتونة. وان في موازين للحمة اسمها نص كيلو و كيلو إلا ربع. كنت إذا ذهبت مع أبي للجزار كان ينظر الى الذبيحة ويقول للجزار: "لا اللحمة دي مش عجباني النهاردة، عموما اديني خمستاشر كيلو لحد ما يجيلك حاجة كويسة!"

البطيخ بالنسبة لي كنت أظنه يوزع بالمجان. أو الدولة تزرعه وتنفق عليه ليكون ملكا الجميع. البطيخ كان بيجلنا في سيارة ربع نقل صندوقها الخلفي ممتلئ ويقوم السائق بإنزاله فرادى وجماعات.

نوزع نصفه على عماتي وبعض الجيران .. ثم يتبقى لدينا شيئا قليلا ( تلاتين بطيخة مثلا ) .. وحينما تركت البيت وأقمت بعيدا ذهبت مرة لبائع الفاكهة كي آخذ بطيخة، فاكتشفت أن البطيخ بيدفع فيه فلوس !! يا إلاهي !! لا وكمان سعر البطيخة 15 جنيه !! شعرت بالذهول وأن ثمة شيء خطأ في الأمر. وهنا عرفت ميزة أن تعيش في بيت أب منحه الله رزقا ميسورا. ومعنى أن يمر الفقير من أمام محلات الطعام فيشتهي ربع كيلو لحمة أو شقة بطيخ . فكان الأمر صادما وموجعا في ذات الوقت.

أمي قبل ما تنام قالت لي: "عندك بيتزا في المطبخ أنا عملتها مخصوص عشانك. وفي كحك وبسكويت وبيتي فور ولانكشاير لو حابب تاكل مع الشاي. وفي شيكولاتة سويسري في غرفة الطعام عشان لو سهرت ووجدت نفسك جائع."

أمي ناظر مدرسة ابتدائي وصحتها على قدها، ولكنها تعرف حقوق البيت، وإن الخير لازم يكون موجود. وعلمتنا شكر النعمة لأن هناك من لا يجد شيئا.

لدينا خادمة اسمها "ستوتة" فتاة عشرينية غير متعلمة، هزيلة البدن وشاحبة الوجه وهرمون التستيستيرون لديها أقوى بكثير من البروجسترون والاستروجين. لا ينقصها سوى لحية نابتة حتى تصير رجلا. وبعض الاشياء الأخرى !

ستوتة مش هتقضي العيد في بيتهم تاكل بيتيفور وتشرب شاي مع شيكولاتة سويسري. ولما بتصحى من النوم بالليل مش بتجد في التلاجة محشي وبط وكفتة.

سألتها ليه بتشتغلي في العيد، خدي اجازة يومين وبعد كدة ارجعي. قالت أن لديها أخت أصغر منها مخطوبة ودخلتها في العيد الكبير، وأبوها ميت.. عندها أكتر من أخ متزوج لكن كل واحد بيجيب عشا عياله بالعافية.

وستوتة رجل يرتدي زي أنثى، ولذلك فهي بتخدم في البيوت أكثر من خمستاشر ساعة في اليوم عشان تجهز أختها وتفرحها. ستوتة مسترجلة من غير ما تشرب بيريل، ومش مستنية حاجة مني ولا منك ولا من الحكومة ولا حتى من اخواتها.

*

بعد صلاة العشاء قال الإمام أنه يجب أن نبدأ التكبير ابتداءا من تلك اللحظة، ولكن أحد الإخوة السلفيين قاطعه على الملأ وقال أن التكبير يبدأ من يوم غد. كادت أن تحدث مشادة ولكن تم احتواء الأمر. يصطنعون مشاجرة من أجل قضايا فقه فرعية لا علاقة لها بأصول الدين أو ركائز الشريعة، ثم يتحول كل واحد فيهم الى بطل يدافع عن ضيعة الإسلام.

كلنا يعلم واقعة بني قريظة.. أرسل النبي صحابته إلى هناك وقال بشكل واضح لا لبس فيه "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ".. وفي الطريق دخل وقت العصر فاجتهد بعضهم وصلى العصر ثم استأنفوا السير، وكانت حجتهم أن النبي لا يقصد المعنى المباشر للكلام إنما يريد أن يحث على الإسراع، ولذلك قاموا بتطبيق روح النص لا منطوقه. وقال البعض الاخر نلتزم بكلام النبي الحرفي ولا نصلي إلا هناك.

و قابلوا النبي و حكوا له فأقرهم جميعا. الامر بسيط والله. والاختلاف في أشياء منصوص عليه جائز. وصرف اللفظ عن ظاهر معناه وارد. وعدم الالتزام بالنص والحيد عنه إلى المقصد أو المفهوم شيء أقره رسول الله. وهذا ما جعل فقيه كبير مثل نجم الدين الطوفي يبني الشريعة على "المصلحة" والشاطبي ينشؤها على "المقاصد". فلماذا نصر أن نصطنع حروبا وهمية لنتحول إلى أبطال زائفين ؟!

هناك حديث في البخاري فيه دلالات جيدة أيضا:

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. فأغضبوه. فقال لهم اجمعوا حطبا وأوقدوا نارا، وبعد أن فعلوا قال لهم ألم يأمركم رسول الله أن تطيعوني، قالوا بلى. قال إذن ادخلوا فيها.

الغريب أن بعض الصحابة كاد أن يدخل النار ويقتل نفسه حرقا التزاما بوصية الرسول أن يطيعوا الرجل. ولكن بقية الصحابة اجتهدوا في إثنائهم عن فعلهم وظلوا يدفعوهم بعيدا عن النار. ولما وصلوا للنبي وحكوا له غضب منهم وقال:

"لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف."

الذين يلتزمون حرفيا بكلام الرسول كادوا أن يحرقوا أنفسهم ويتسببوا في هلاكها في الدنيا والآخرة. الرسول وضع ضابطا واضحا للالتزام بالأوامر والنواهي وهو أن يكون أمرا طيبا يؤدي إلى خير، وما دونه يقع باطلا، حتى لو كان الأمر والنهي صادران من النبي نفسه. اسمحوا لعقولكم أن تجد مساحة بعيدا عن جمود النص.

تلك خلافات تافهة صنعتها عقولنا المريضة ونفوسنا المتشنجة، وخلقتها عصور الاستبداد السياسي التي أرادت إلهاء الناس في اشياء أخرى غير حقوق الناس وأنظمة الحكم. فلينشغلوا في المساجلات بين الشعراء، في ماتشات الكرة، في قضايا الفقه الفروعي التي لا تقدم أو تؤخر. كل ذلك جيد.

*

طب بالنسبة لستوتة، هل في حد هينشغل بيها ويسأل عنها ويجوز اختها ويدخل الفرحة على قلبها. ولا الاختلاف حول تكبيرات العيد هيكون أهم !! لو لم تجد ستوتة وأمثالها حياة انسانية تحفظ لها كرامتها فاعلم أننا في مجتمع غير مسلم حتى ولو كثرت فيه الصلوات والتكبيرات.

من ذكريات عيد...

السبت، 23 مارس 2013

تفاحة وعبدو .. ونوبل في الاقتصاد

عندما كنت مراهقا كان الطبيب لا يكف أن يذكرني بمشكلة شرايين القلب.
...

اضطررت مرة لزيارته لفحوص روتينيه مطلوبة، وعندما أحكم الأسلاك الموصلة بكلبسات مثبتة بجيل لزج حول صدري وأطراف يدي وقدمي، أخرج رسام القلب (Electro Cardio Graph) نتيجة مؤداها أن لدي مشكلة مزمنة بشريان القلب الرئيس الذي يغذيه بالدم.

لم أنتبه لكلام الطبيب ولم آخذه موضع الجد. وظللت أمارس الرياضات العنيفة وأتناول الطعام الدسم. أضحك بقوة وأبكي بحرقة.. أندهش وأحزن وأنام ملئ عيناي.. إنه قلبي أنا، وأنا أكثر من يعرفه، فماذا يعرف هذا الطبيب الأحمق عنه، إنه لم يراه سوى دقائق.

لقد حملته معي سنوات النشأة والتكوين، وخبأت داخله كل أسراري الخاصة؛ مشاعري وهمومي ومخاوفي التي لا تبدوا في العلن. ولكن وقت الأحزان تضطرب نبضاته قليلا فأتذكر طبيبا أحمقا وجهازا ملفوفا حول صدري.

لا يهم، الشاعر يقول:

وكم من صحيح مات من غير علة . . وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من فتى يصبح ويمسي ضاحكا . . وقد نُسِجت أكفانه وهو لا يدري

*
أثناء عودتي اليوم، قابلت تفاحة وعبدو.. تفاحة تبيع الأذكار وعبدو يبيع المناديل.. طفلان متسولان يمران عليك كل يوم ولا تنتبه لهما.. من كثرة النصب في حياتنا اليومية صرنا نشك في أي شيء. ولكن وجه تفاحة كان ملفتا. إنها مهذبة وغير لحوحة وعيناها تنبضان بالحزن والكبرياء.

تعرض عليك مرة ثم تغادرك سريعا دون أن تلحظها، كنسمة عابرة في حر أغسطس.

كنت أقرأ في كتاب كبير للدكتور محمد يونس، الاقتصادي البنجالي الحائز على نوبل، والذي صنع أول بنك للفقراء في العالم. والذي ساهمت تجربته في خفض معدل الفقر في بنجلادش بنسبة تصل إلى 50% ووفر عملا لحوالي 7 مليون إمرأة فقيرة ومساكن لقرابة 600 ألف أسرة.

البنوك لا تتعامل إلا مع الأثرياء، ليزدادوا ثراءا. تقدم لهم القروض والتمويلات وتسهيلات الدفع. لتحولهم من مرحلة الملايين إلى مرحلة المليارات. وحال التعثر تستطيع أن تستقل طائرة وتهرب لتعيش رغيدا في أحد جزر الكاريبي كملك. ثم تساومهم على الدفع.

بينما لو كنت فقيرا فاعرف أنك ستبيع المنزل اللي حيلتك، أو ستدخل السجن، وستهان زوجتك في عمل المنازل لتسدد قيمة الـ 5 آلاف جنيه. هذا نموذج عالمي بالمناسبة ولا علاقة له بمصر فقط. إنه الوجه الخشن للرأسمالية.

الرأسمالية عمرت الأرض، ما من شك، وصنعت التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة وقدمت معامل البحث العلمي. ولكنها في ذات الوقت أساءت توزيع أرباحها على العالم بالتساوي، وبما يكفل العدل والتراحم. تقول لنا تقارير التنمية الدولية أن 93% من الدخل العالمي يستمتع به نصف سكان الأرض. بينما الفتات للنصف الآخر.

الرأسمالية حولت العالم إلى سوبر ماركت ضخم. وعرضت السلع بشكل مغر يجعلك لا تقاومه. أنت لا تحتاج إلى كل تلك السلع ولكن الإعلانات التجارية ستقنعك أنك تحتاج لها. وستربط بين مستواك الحضاري وبين استهلاكك لتلك الأشياء وقوتك الشرائية في جلبها.

المرحلة التالية هي أن تدخل دائرة لا تنتهي من الاستهلاك وتنامي الاحتياجات، فتصير حياتك مستحيلة من دون تلك الأدوات الرفاهية، التي هي في الأساس زائدة عن الحاجة.

ثم تصاب بظمأ لا ري له من الاستهلاك. إنهم يستعينون بخبراء علم النفس والاجتماع والتسويق لصنع تلك الإعلانات. ثم تقوم العولمة بدورها بعد ذلك؛ حيث تعبث بثقافتنا الوطنية والقومية لكسر الحواجز بين الدول، ويصير النمط الاستهلاكي في الدول الغربية هو النموذج الأمثل في كل مكان.

رغم أن هذه الدول هي المنتجة وهي المستفيدة، بينما نحن مجرد أسواق تحقق لهم مكاسب إضافية.

قديما كان البيت المصري لا يوجد فيه سوى الجبن القريش. أو جبن قريش ممذوج بملح وفلفل حار ليصير مش. أفضل الظروف أن يكون هناك جبن قديم براميلي. وكان الكل يأكل ويشبع ويعمل ولا يكتئب، ويحسن معاملة غيره.. الآن لو دخلت هايبر ماركت لتشتري نصف كيلو جبن. ستخرج ومعك 10 كيلو جبن، وأشياء آخرى.

الدكتور محمد يونس أثناء نزوله من بيته وذهابه لتدريس الاقتصاد في الصباح في جامعة دكار، وجد امرأة على قارعة الطريق تجادل رجلا فظا لتقترض منه دولارا واحدا. وقف واستفسر عن الأمر. فحكت له المرأة أنها تقترض منه دولارا لتشتري الخوص لتصنع منه سلال البامبو لتبعها بعد ذلك. ولكن هذا الرجل، في مقابل القرض، يجبرها على أن تبيع له حصريا وبسعر بخس كل إنتاجها.

أخرج الدكتور يونس من جيبه دولارا وأعطاه للمرأة فابتهجت وشعرت أن كل مشاكلها في الحياة قد انتهت! هي حرة منذ اللحظة.

وأثناء عودته بحث عنها وسمع منها أكثر، وعرف أن هناك 42 سيدة في المنطقة لديهن ذات المعاناة، وأن مجموع ما يحتاجوه هو 27 دولارا فقط. وأنهم يخضعون لعبودية قسرية لمقرضين يستغلونهم.

ومنذ تلك اللحظة شعر الدكتور يونس بسخف كل النظريات الاقتصادية التي يدرسها لتلامذته في الجامعة. ما قيمة كل هذا التقعر طالما هناك سيدات كهؤلاء مستعبدات من أجل دولار أو بضعة دولارات!

ومن هنا جاءته فكرة بنك يقرض الفقراء فقط. حاول في البداية أن يقنع بعض البنوك المحلية أن تقوم بالدور، ولكنهم سخروا منه لأن القاعدة التي يعرفها أي طالب بالفرقة الأولى أن الجدارة الإئتمانية للمقترض هي الأساس، وهؤلاء النسوة معدومات ولا توجد لديهن أي ضمانات سداد.

أخذ الفكرة وكافح فيها سنوات. وأنشأ بنك جرامين. الذي أسهم في خفض معدلات الفقر في بنجلادش، وصار أحد أشهر البنوك في العالم. ومن هنا تم اختياره لنوبل.

وأثناء ذهابه لنيل الجائزة أخذ معه عينة من هاته النسوة المعدومات. واللاتي يعانين من الوجه القبيح للفقر والرأسمالية الاستهلاكية. ليقول للعالم أنه من أجل هؤلاء يجب أن يكون كفاحنا.

وقف في ستكهولهم حيث أغنى عواصم العالم والسادة المتأنقين، ليبرز لهم النصف الثاني من العالم والذي يظهر كمجرد رقم إجمالي في مقررات الإحصاء. بينما كل رقم منه يمثل إنسانا يمرض ويجوع ويعاني، ويموت من الذل.

الإسلام هو الحل.. نعم، إسلام الإنسان القائم على التكافل والتراحم والعمل والعدل.

الإسلام الذي جاءنا بنموذج أن لو جاءك محتاج وليس في بيتك غير نصف رغيف خبز فاقسمه بينك وبينه. الإسلام الذي لم يجعل الصدقة منة أو عطاءا. بل حق. وجعل كنزها من موجبات العذاب حتى لو عبدت الله ووحدته.

وجعل الرجل ينفق الدرهم وهو لا يملك إلا الدرهمين. اي ينفق نصف ماله. من منا الآن يقدر على أن ينفق نصف ماله أيها المسلمون.

الإسلام جاء لتهذيب نفوسنا من الجشع والطمع والأنانية، ولذلك نستطيع مقاومة ثقافة الإستهلاك الكبير mass high consumption ، ونستطيع مقاومة عواصف العولمة. ولذلك جعل الله إنسان الإسلام هو المستخلف والذي يجب أن يسعى لأن يكون متمكنا. لأنه لو امتلك الثروة أحسن توزيعها على الجميع بدلا من أن يغدق على نصف ويقتر على النصف الآخر.

لو قمنا بنموذج محمد يونس في مصر. أول شيء سيصدر هو فتوى تحرم البنوك! البنوك أصلا حرام!!


*
أغلقت الكتاب ونظرت إلى تفاحة وعبدو.. تحدثت معهما بضع دقائق.. تفاحة 10 سنين وعبدو 11 سنة. تسربا من التعليم، كالعادة، لتزداد الأمية في مصر رقما إضافيا. أبوهما هارب كعادة الرجال عندما تحبط. وأمهما تعمل خادمة. وهما يسرحان طيلة اليوم ويعودان ليناما كقطعة حجر صماء.. وغد يوم آخر.

أنظر إليهما في حسرة.. ما ذنبهما؟ ستحلم تفاحة يوما أن تحمل كتابا وكشكول وتعقص شعرها وتلبس جيب كحلي وتذهب للمدرسة الثانوي، عندما تمر من هناك لتتسول، وستحلم بملابس جديدة للذهاب للجامعة، عندما تقف أمام بابها تستجدي ولد وبنت خرجا متجاورين يتأهبان لقصة حب طاهرة كورق الشجر ونقية كحبات الندى.

تفاحة حتما بعد عشر سنين ستتزوج من بلطجي أو تاجر مخدرات أو متسول مثلها. حتمًا لن يتقدم لها شريف طالب الهندسة ابن اللواء اسماعيل الألفي. وغالبا ستكون حياتها دائرة أخرى من العذاب والقهر. هذا لو كان حظها طيب ولم تتحول إلى عاهرة تبيع شرفها لسائقي التوكتوك بمبلغ زهيد، أو يغتصبوها ولا يدفعون.

هذه اشياء تحدث في مصر سيدي المحترم الذي تقرأ عبر بلاك بيري أو آي فون 4s وتشعر بالحنق لأنك لم تشتر آي فون5 بعد.

لو أن تجربة الحكم في مصر استطاعت أن تنقذ تفاحة من مصيرها الذي ينتظرها فهي فعلا تجربة اسلامية، وإلا فهي مجرد صراع سلطوي عفن يبحث عن إرضاء شهوات النفس من سطوة واستمتاع.

الغريب أن المشاجرة المنصوبة الآن بين حزب النور صاحب شعار "قرآن وسنة بفهم سلف الأمة" وبين الاخوان "الإسلام هو الحل" ، سببها الرئيسي هو صراع نفوذ ومصالح وقتال شرس على المناصب. الرئاسة أقالت أحد رجال الدعوة السلفية بدعوى التربح واستغلال النفوذ، فبكى الرجل، وفتحت الدعوة السلفية نيران المدفعية الثقيلة تجاه القصر. رغم أن السلفيون سكتوا على القتل والسحل وإهانة الكرامة والسرقة والاستبداد، ولم نر دموع أحد رجالها تنزل إلا عندما فقد كرسيه الاستشاري في القصر.

لو أن أحدهم نزل إلى الشارع وتحدث مع تفاحة فهو هنا فقط قد بدأ يؤمن بالإسلام. وأما ما دون ذلك فهو مجرد صراع سلطة لإرضاء غرور النفس ونزواتها، والدين في برنامجهم أحد وسائل التمويه والخداع.

لن أشعر بالندم عندما أختم بآية، ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )

*
عموما وجه تفاحة سيعطي قلبي الواهن عمرا إضافيا.. إصرارا على الحياة، وكفاحا لن يهدأ وعزيمة لن تكل إلا لو خففت معاناتها.

شكرا تفاحة. سأعيش من أجلك يا فتاتي.