محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الأحد، 24 مارس 2013

لا تقتلوا ياسمين ..

                       
                       (صورة تعبيرية)

* * *

ياسمين , فتاة سمراء نحيلة , وملامح وجهها يظهر سوء تغذية حاد .. حذائها مشقوق وملابسها باهتة ومكرمشة , ويداها الخشنة تظهر معدلا كبيرا من الفقر والشقاء .

تذهب الى المدرسة الثانوية التجارية ثلاثة ايام , وتخدم في المنازل بقية الاسبوع .. تنفق على نفسها بشكل كامل وتعطي الباقي لأمها التي تخدم في الايام التي تذهب فيها الى المدرسة .

منذ أن خرج أبوها من السجن وهو بلا عمل .. لا
يكف عن الشجار في البيت , ويضرب أمها لو لم يجد أموالا لشراء البانجو .. نصف اليوم يجلس أمام المنزل يدخن ويسعل ويتنخم ويبصق .

حاول أن يكون بلطجيا , ولكن مع أول مرة قام فيها "تثبيت" أحدهم بمطواة قديمة كان يحتفظ بها منذ سنين , وقع حظه مع شاب قوي البنية يمارس رياضة الملاكمة , فأوسعه ضربا وتسبب في كدمات زرقاء حول عينه وبجوار فمه .

حظه سيء في كل شيء .. منذ سنوات كان يقوم بسرقة أحد المخازن ومعه ثلاثة من رفاقه , وحينما جاء الحارس فروا جميعهم , ولكنه , لسبب ما , تعثر في سلك الكهرباء الممدود على الارض , فوقع على وجهه وقبض عليه .

في المساء تفتح ياسمين الراديو الصغير الذي تمتلكه وتسمع الأخبار .. لقد خرجت في الثورة وذهبت لميدان التحرير وهتفت مع الشباب القادم من مصر الجديدة ومدينة نصر , وتصدت للبلطجية في موقعة الجمل بشجاعة .

خلعت طرحتها في الميدان وجعلتها ضمادة لرأس أحدهم كان ينزف بشدة , حاول الشاب ان يرفض كي لا يُكشف شعرها , ولكنها قالت له أنها تفتخر لأن حجابها سينقذه , وأنها لا تخاف وهي وسطهم من دون "إيشارب" . وذهبت الى بيتها مرفوعة الرأس تعانق النجوم .

لم تشعر بالخجل يوما من فقرها ولا تنظر بحقد الى أحد .

سمعت ياسمين الشيخ محمود الازهري وهو يقول أن يكون سن الزواج للفتاة عند التاسعة .. صرخت وقالت لي حينما قابلتني : " يا دكتور ارجوك قل لهم ألا يفعلوا .. الفقرا ممكن يبيعوا عيالهم بتراب الفلوس .. دول ميعرفوش احنا عايشين فين وازاي .. ربنا مش عايزنا جواري , دا الرسول جه عشان يحرر العبيد ويدافع عن المظلوم ويعيش مع الفقراء .. الفقراء اللي زينا ."

ثم نظرت نحوي بعين دامعة ومنكسرة , وهمست بصوت مخنوق : " نفسي أكمل تعليمي وآخد دبلوم تجارة , ويبأى معايا شهادة زي عبير بنت خالتي .. ولما اتجوز هشتغل والحس البلاط عشان بنتي تخش الجامعة " !*بعض الناس يظن أنه يمكنك التقاط نص من قرآن أو سنة ثم اصدار حكم فقهي بالحل أو الحرمة بشكل مباشر دون الدراسة المتأنية لطبيعة النص في ضوء القواعد الكلية التي اتفق عليها الاصوليون وقواعد العقل والمصلحة .

يحفظ نصا واحدا يرميه في وجهك دون أي فهم أو رشد .

هل يجوز للفتاة أن تتزوج في سن صغيرة بمجرد بلوغها سن المحيض أو حتى قبل المحيض ( مضاجعة الصغيرة ) ؟؟

ثار السؤال في الجمعية التأسيسية للدستور , ودافع رجال الدين السلفيين عن هذا الحق , وأنه لا يجب تقنين سن الزواج أو تقييده .. واحتجوا بالآية الكريمة ( واللائي لم يحضن )

بينما الفريق المعارض كانت لديه ضوابط طبية وتعليمية واجتماعية حتى لا تضطر الفتاة إلى إنشاء أسرة وهي غير مؤهلة بدنيا أو نفسيا , وحتى لا يتحول الأمر الى إتجار مقنن في البشر .

ولكن ظل المشايخ – على رأسهم الدكتور برهامي – يحتجون بكتاب الله وبالاية المذكورة .

قبل أن أرد يجب أن اشرح امرا فقهيا اخر حتى تتضح الصورة .. وأنا في غاية الحزن لأن الشيخ ياسر يتحدث بسطحية من لم يدرس أمرا فقهيا من قبل , واستغرب كيف يكون قائدا فكريا لتيار كامل , بل وعضو لجنة صياغة دستور مصر , وإدراكه الديني بهذا المستوى , فما بالك بإدراكه التاريخي أو الدستوري أو الثقافي !!

يتساءل الفقهاء , هل تصح الوصية لوارث ؟؟ هل يجوز للرجل أن يميز أحد ورثته بوصية مستقلة عن نصيبه في الميراث , أم أن الوصية تكون لغير المستحقين نصيبا في التركة ؟

الآية صريحة في هذا الشأن ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت , إن ترك خيرا الوصية , للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ) . أي أن كل الاقارب يجوز ان يكون لهم نصيبا من الوصية بغض النظر عن نصيبهم في الميراث .

كيف تعامل الفقه مع تلك الآية ؟

الفريق الاول : التزم بتلك الاية نصا , وقال ان الوصية منفصلة عن الميراث , ويجوز أن يجمع الشخص بين أن يكون موصا له ووارثا.

الفريق الثاني : احتج بحديث للرسول ( ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ) . وعطل الآية القرآنية فلم يعد لها محل !! وقال ان الحديث نسخ النص . وهذا فريق كبير من فقهاء الاحناف والشافعية والمالكية .

وبعضهم قال ان هذه الاية نزلت قبل آيات المواريث فكانت الوصية للوالدين والاقربين بديلا عن الميراث , ولكن بعد أن نزلت آية الميراث عطلت تلك الاية وصارت هناك حقوق ثابتة للورثة فتكون الوصية لمن لا يرث .

الفريق الثالث : أخذ بنص آخر للرسول ( لا وصية لوارث , إلا أن يجيزه الورثة ) فيتم توزيع التركة توزيعتين احداهما وكأن كافة الورثة موافقون , والثانية كأنهم رافضون , ثم يعطى كل واحد وفقا لموافقته أو رفضه . وهذا ما يأخذ به القانون المصري .

ثم ما هو مقدار الوصية؟ كل التركة أم نصفها أم ثلثها , وهنا ثار خلاف ثان بينهم , فمنهم من احتج انه في ثلث التركة فلا يجوز تجاوزه وهناك من قال ان الموصي حر في قراره .

اضرب هذا المثل لأبين أن الامر ليس بالحسم الذي يتوقعه البعض لو حفظ آية واحدة أو تعلم حديثا .. وأن النص بيان إلاهي بينما فهم النص وتطبيقه هو عمل بشري , وهو صناعة فقهية متغيرة .

*نعود لقضية الزواج ..

اولا : تلك الاية يتم الاستدلال بها في غير موضعها , فالآية وردت في سورة "الطلاق" .. ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن )

الله يتحدث هنا عن الطلاق وليس عن الزواج , ويريد أن يبين الطريقة التي تتحلل فيها المطلقة من علاقتها بزوجها السابق حتى تتمكن من الزواج مرة ثانية , فيجب ان يمر عليها ثلاث حيضات وفي رأي آخر ثلاثة أطهار , وذلك لاختلاف التفسير حول كلمة "القرء" في الاية .. والتي انقطع عنها الحيض لكبر السن فلتتربص ثلاثة أشهر , واللائي لم يحضن ملحقن بهن .

وهذا الكلام لا يحمل اي تشريع في رأي الدين في سن المرأة المتزوجة , ولكنه يعالج تنظيم شئون الطلاق بغض النظر عما سبق من زواج , لأن الزواج – وفق رأي الجمهور – مندوبا وليس فرضا , ويستقل المجتمع بتحديد شروطه من طبيعة المهر والشبكة والتكاليف والاعباء المادية وطبيعة السكن والحياة وعدد الاطفال .. الخ .

ولما أراد عمر أن يحث النساء ألا يبالغن في المهور قامت امرأة وردت عليه أن هذا عطاء أقره الله للمرأة ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا . وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض ) ولا دخل للخليفة به .. فأقرها على رأيها وأقر خطأه .

( الآية تحمل معنا عظيما , وتصور من يسلب حقوق زوجته المالية بأنه ظالم ويأتي إثما كبيرا !! ثم يقول , وقد أفضى بعضكم الى بعض , في اشارة الى خصوصية العلاقة وأنها قائمة على انصهار المشاعر والهموم وتشابك أسرار النفوس )

ولو عدنا لبعض آراء المالكية في قضية الحيض لتفسير الاية فقد يحل الاشكال , فهم يشترطون مقدارا معينا للمرأة حتى تسمى حائضا , فالتي يكون الدم عندها مجرد قطرات قليلة لا تعد حائضا , ولا ينسحب عليها أحكام الحيض , وبذلك تدخل في نطاق تلك الاية , وهذا لا علاقة له بسن المرأة إنما بحالتها الجسدية .. ايضا من تتعرض لعملية استئصال رحم فهي لن تحيض . كذلك بعض الفتيات يكن لديهن مشاكل طبية في الجهاز التناسلي مما قد يسبب اختلال في وقت الحيض .. وهنا يتدخل الطب ويرفع الدين يده .

دعونا نفترض صحة التفسير القائل أن الفتاة يجوز لها الزواج وهي قبل سن البلوغ , ثم رغبت الطلاق وهي لازالت صغيرة لم تحض , وهنا يتطرق القرآن لشق الطلاق وليس لشق الزواج السابق عليه , والذي لم يتدخل فيه بتشريع , فهو في حكم المسكوت عنه والذي يخضع لقاعدة كبرى اسمها "لا ضرر ولا ضرار" , أي أن كافة احكام الاسلام يجب أن تتجنب الضرر للإنسان أو لغيره .. تلك قاعدة كبرى حاكمة .

حينما يسألون الفقهاء : هل يجوز الوضوء بالماء المغصوب , فيجيب بعضهم أن نعم .. ليس معنى هذا تشريع الغصب , إنما السؤال منصرف الى الشق التالي للغصب , كمعالجة لاحقة حال استحالة إعادة الماء إلى صاحبه , هل يرمى بلا فائدة أم يستغل في شيء نافع ؟ .. وإن ظل الغصب حراما .

ذات الشيء .. الله يتحدث في فرض الطلاق وتحديد أحكامه ولم يتطرق للشق الاول الذي يتحدث عن الزواج .

*ولكنهم أغفلوا أو تغافلوا عن آية صريحة تتحدث عن الزواج , جاءت في سياق مختلف , وهي اكثر دلالة وأكثر وضوحا :

( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم )

هذه الاية تتحدث عن القائم على إدارة اموال الطفل اليتيم . والأمر موجه له . اذا بلغ هذا الطفل مرحلة " النكاح " والرشد فإن له الحق بتسلم أمواله .. ولم يقل يبلغ سن البلوغ , بظهور المني عند الفتى ونزول الدم عند الفتاة . فربط الله بين "النكاح" وبين "الرشد" العقلي والقدرة على تسلم الاموال والتصرف فيها وحسن ادارتها .

اذن الله جعل التماس بين النكاح و الرشاد وبين المقدرة على التصرف في الاموال .. وهنا يتدخل الانسان بتشريعات تفصيلية تحدد سن الرشد وسن النكاح وفقا للأعراف السائدة ومواءمات الزمان والمكان وطبيعة حياة الناس .

لو راجعنا بنود القانون المدني سنجده اكثر تفصيلا في هذا الشأن .. فهو يقر نوعين من الاهلية , أهلية الوجوب : وهي التي تتوافر للشخص بميلاده حيا , فتجوز في حقه التصرفات النافعة نفعا محضا مثل الهبة والوصية , وأهلية الآداء : وهي قدرة الشخص على اكتساب الحقوق والتحمل بالالتزامات والتي لا تكتمل إلا بسن الرشد .

و يفرق بين الصبي المميز الذي تجاوز السابعة , وتكون افعاله قابلة للبطلان لصالحه ( إبطال ) , والصبي غير المميز التي تكون تصرفاتة باطلة بطلانا مطلقا ( بطلان ) .. ثم تحدث عن الصبي المأذون له بإدارة بعض امواله ببلوغ سن الثامنة عشرة , ثم بالراشد الذي وصل سن الحادي والعشرين .

*علماء الأصول يربطون النصوص بالعلل .. الحكم الشرعي مرتبط بالعلة التشريعية التي جاء من أجلها , وهو يدور معها وجودا وعدما , فيجب قراءة القرآن باستنارة وفهم , وعدم التعثر أمام ظاهر النص وتجاوزه الى المصلحة التي يحققها أو العلة التي يبتغيها او القضية التي يعالجها , فيجوز تجاوز ظواهر بعض النصوص مرحليا لغياب العلة التي جاءت من أجلها , أيضا يجوز أخذ الحكمة من النص واعادة تطبيقها في وقائع مختلفة .

الله يقص علينا القصص ويضرب لنا الامثال ليتولد لدينا عقل راشد ونفس مطمئنة وسلوك سوي وأخلاق منضبطة ؛ حتى نتمكن من القياس والاستباط والاستحسان وتقليب الامور على عدة أوجه فندرك الصالح من الفاسد , وما يسبب النفع وما يأتي بالضرر . وتحدث في خطوط عامة وعريضة وترك تشريعات الانسان التفصيلية تنظم الحياة وتحكم الارض في ضوء الهداية التي استلهمتها نفسه من نصوص القرآن وأمثاله وقصصه .

لذلك عطل عمر مصرف الزكاة المتعلق بالمؤلفة قلوبهم لزوال سببها , وكذلك منع المجاهدين من تملك الاراضي المفتوحة أو أخذ الفيء والغنائم منها , رغم أن القرآن أقر ذلك , وكان هدف عمر أن هذا سيؤدي الى زيادة غنى المحاربين وافتقار البلدان المفتوحة .

كذلك عثمان بن عفان توقف عن جمع الزكاة لأنه أدى الى تحايل من قبل البعض وفساد من قبل العاملين الذين يجمعوها وخولها لكل فرد حسب ضميره يخرجها بطريقته الخاصة .. رغم ان هذا مخالفا لسنة الرسول وسنة ابي بكر .

تخلصوا من تعمد التشويه والاجتزاء رجاءا , ولا تكونوا كمن يحمل أسفارا ونصوصا لا يدري معناها و ومبتغاها .. الله شنع على هؤلاء الاغبياء وقال انهم كالحمار يحمل اسفارا .. وفي موضع آخر كالانعام .

الاغبياء لا يدخلون الجنة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق