برودة الليل عندما تمتزج بغربة الأرض وغرابة الوجوه فإنها تصبح قاتلة.
يومان كاملان لم تسمع أذني كلمة عربية واحدة.. لا أسمع شتائم سائقي الميكروباص المعتادة.. كلام النساء في المواصلات عن الأسعار ومدارس الأطفال، ولون ملابس شاهيناز في فرح نيرمين.. جدل الشباب الحالم عن الثورة والسياسة والتظاهرات.
كتيب الإرشادات الذي سلموه لي في المطار يحذر من الذهاب الى مناطق معينة بعد التاسعة مساءا لأنها خارج نطاق تغطية الشرطة.. معاقل إجرام ومخدرات، إنها طبيعة نيويورك المتناقضة.. تحوي قمة ما أنتجه الانسان من حضارة وأحط ما انتحر له من سفل.
في المساء ارتديت ملابسي ووضعت في حقيبتي كتابا وكمبيوتر لوحي ومصحفا.. هبطت إلى الشارع، ومشيت قليلا ثم اوقفت تاكسي وطلبت منه الذهاب إلى بلو بيرد كوفي.
دخلت المكان وجلست على منضدة في الثلث الأمامي؛ حيث إضاءة جيدة تسمح بالقراءة.
جاءت فتاة مهذبة تبتسم بطريقة غير مصطنعة، اسمها "بو" كما تشير القطعة المعدنية أعلى يمين الصدر، وملامحها تدل أنها من أصول أسيوية. حاولت أن تعرض علي بعض المشروبات ولكني كنت محددا.. قهوة اسبريسو مخفوقة بملعقة كريمة ونصف ملعقة سكر.
أسندت ظهري إلى المقعد المريح وطالعت عناوين إحدى الصحف الامريكية، أخبار الشرق الأوسط حاضرة بقوة، وما يحدث في مصر وسوريا يصل هنا قبل ان نعلمه هناك.
هناك ملف يشرح بوضوح اشتراطات صندوق النقد الدولي وأثرها على اقتصادات الدول المتخلفة.. حكومة مصر بعد الثورة وعدتنا بالشفافية والشراكة الوطنية، وعندما كنت في مصر حاولت أن أعرف شروط القرض ولكني لم استطع، أنا هنا على بعد آلاف الكيلومترات واستطيع المعرفة أفضل.
ليست بحكومة ثورية تلك التي تذهب لتقترض في غرفة مظلمة بعيدا عن عيون شعبها.
تركت الجريدة وأمسكت المصحف، وقبل أن أقرأ جاءت " بو " ووضعت القهوة أمامي وسألتني إن كانت تلك هي المرة الاولى التي آتي هنا، أجبت نعم، فقالت ان المحل يقدم لي قطعة حلوى
( cookies )
كترحيب بالضيف الجديد.
شكرتها، وعلمتها أن تقول شكرا بالعربية.. ثم ذهبت.
فتحت المصحف ومررت بعيناي على آيات من سورة الأنفال..
( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال . إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين . وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) .. ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا . فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائيتن . وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين )
في تلك اللحظة شعرت بمن يتحرك خلفي.. ثم أصابع رشيقة تطرق على كتفي.. التفت فوجدت فتاة تبتسم وتقول: حضرتك مصري؟
كانت متوسطة الطول أميل إلى النحول، تمتلك بشرة خمرية وشعرها أسود قصير مجعد
(curly)
وملابسها عملية.
هززت رأسي أن نعم، ودعوتها للجلوس.
- عرفتي إزاي إني مصري؟
- إسمي ريهام . لا تقلق، أكيد مش من المباحث الفيدرالية، كنت جالسة عند المنضدة القريبة منك وسمعتك تتحدث إلى الفتاة. كنت تعلمها كلمة عربية.
- بحاول أشجع السياحة مش أكتر. مهمة وطنية يعني.
- حضرتك عايش هنا من زمان؟
- من يومين.. مهمة ثقافية وراجع عالطول. وحضرتك؟
- أنا هنا من عشر سنين، درست صحافة في الجامعة الامريكية في القاهرة، بعدها جيت أمريكا أشتغل، ومن يومها مرجعتش. انا محررة في القسم الاقتصادي في النيويورك تايمز.
حضرتك من الأزهر؟ شايفة معاك مصحف.
- لا، أنا باحث في الفكر الاسلامي، مشارك بورقة في أحد المؤتمرات التي تتحدث عن الجهاد.
- ينفع اسألك كنت بتقرأ في سورة إيه؟
- الأنفال.. كان معيار الإيمان فيها أنه وقت المواجهة في الحروب يستطيع المؤمن أن يهزم عشرة من خصومه. العشرين يغلبوا مئتين والمئة يغلبوا ألف. وان لم يفعل لا يعد مؤمنا.
ولكن الله خفف عنهم ذلك وعلم أن فيهم ضعفا. فصار معيار الإيمان هو أن يغلب المؤمن الصابر اثنين من المحاربين. المئة يغلبوا مئتين والألف يغلبوا ألفين.
- أنا مسلمة، ولكني لم أسمع هذه الآية من قبل. أنت متأكد منها؟
- ها هي مكتوبة في الكتاب.
تسكت قليلا، وتأخذ جرعة ماء كبيرة من كوب الماء الموضوع أمامي، وتنظر إلى نقطة ما في الهواء وتقول:
- لازم نبدأ نفهم إن الحرب النهاردة هي حرب اقتصادية بحتة.. حرب إنتاج العلم وصناعة التكنولوجيا.. بما اني محررة اقتصادية، هل تعرف مثلا ان معدل انتاج العامل الصيني عشرة أضعاف العامل المصري؟ يعني العشرة مننا بواحد صيني.
الآية معكوسة. يعني القرآن لو في الصين الآن هيكون أدق.
خلعت نظارتها بدون إطارات وأمسكتها بيد واحدة ثم أكملت حديثها:
- متوسط دخل الفرد في كوريا الجنوبية 12 ضعف متوسط دخل الفرد في مصر.. رغم أن كوريا في وقت من الأوقات كانت أفقر دول العالم، كانت أفقر من مصر.
شركة واحدة هناك، وهي شركة سامسونج، بتكسب في السنة 20 مليار دولار، اربع اضعاف دخل قناة السويس في السنة.. وباعت السنة اللي فاتت 100 مليون هاتف نقال.. لو كان دليسبس عرف كدة كان مات بحسرته.. أو كان فتح مكانها شركة خدمات محمول!
تمرر يدها عبر شعرها بحركة عصبية، ثم تمسك شنطتها وتخرج علبة مكياج صغيرة مكتوب عليها ماركة شهيرة وتقول:
- سلسلة محلات وول مارت
wal mart
هنا في امريكا ميزانيتها أكبر من ميزانية دولة نفطية ضخمة مثل السعودية!
يبأى ازاي الآية اللي انت بتقرأها دي تبأى صح.. إزاي المؤمن يغلب عشرة أو حتى يغلب اتنين، في حين ان المؤمن عالة على العالم ويعيش على الهامش والعشرة منه بواحد صيني؟
- المسلمون في ماليزيا وأندونيسيا وتركيا بيقتربوا من المعدلات العالمية.
- بس دي دول علمانية بشكل واضح.. وبتفصل الدين عن الإدارة والسلطة السياسية.. وبتعتمد نموذج للتعددية الدينية والانفتاح الثقافي. الشواذ لهم حقوق في تركيا ذات الأغلبية الإسلامية ، وفي ماليزيا تستطيع أن تعبد بوذا. هذا لا يمكن أن يحدث في مصر أو السعودية أو الشام.
الإسلام نزل في الحجاز وانتقل سريعا الى الشام ومصر. يعني أثره لازم يبان عليهم في المقام الأول. الأثر الوحيد اللي بيبان علينا إننا بنستورد أدوية للبلهارسيا ومقويات جنسية وقمح.
- لكن بنصدر فراولة على فكرة.
- هههه ..
- بمناسبة بوذا، تعرفي إن الشيخ يوسف القرضاوي نقل في أحد كتبه رأي عن الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار ، نقله بدوره عن ابن حزم وغيره أن البوذيين كانوا أصحاب دين سماوي في القديم ولكنه تلاشى مع توالي الزمن. واحتج في ذلك بما أجراه عمر بن الخطاب في شأن الفرس تابعي ديانة زرادشت. عندما أقام لهم حكم أهل الكتاب. وسمح لهم بالتعبد الكامل وفق دينهم.
الدستور في مصر ينص على حماية الدولة لأصحاب الديانات السماوية. وبفتوى الدكتور القرضاوي المؤصلة فمن الممكن إقامة معبد بوذي في مصر. القانون الدولي يعرف شيئا اسمه المعاملة بالمثل ومن حقهم منع المساجد في بلادهم لو منعنا نحن معابدهم في بلادنا.
- ولكن الصينين لن يفعلوا ذلك. هم أذكى من الدخول في معارك يرونها هامشية. معركتهم الرئيسية هي الاحتلال الناعم الجديد. و ليس احتلال الجيوش فهو احتلال مكلف ومرهق. ولكن احتلال السلع الاستهلاكية والإنتاج وصناعة التكنولوجيا.
- البرادعي قال موضوع بوذا شتموه. وميعرفوش ان الشيخ القرضاوي قال ذلك قبل خمسين سنة. الشيخ القرضاوي ينتمي للإخوان.
- وليه مشتموش القرضاوي؟
- لأنهم ببساطة لا يقرأون.
- ولو قرأوه هل تتخيل يطبقوا فتواه؟
- لا
- ليه؟
- لأن روح التطرف صارت أقوى من السلطة الحاكمة وأقوى من المشايخ المعتدلين
- انت متفائل؟
- جدا..
- ليه؟
- الإنسان هزم الشيطان وسجدت الملائكة عند قدميه، وخلقه الله روحا من روحه. هناك دوما أمل. والتاريخ الديني يقول أن الأرض يرثها المصلحون. وأن ثمة قوة تكمن في الحق إذا واجه الباطل وإذا اتخذ عوامل النصر. وسنتواجه يوما وننتصر.
- شكرا جزيلا لكلامك وآسفة لو كنت تثاقلت عليك. لكني مسمعتش حد بيتكلم عربي من زمان أوي.
- شكرا انك جيتي اتكلمتي معايا، انا من يومين هنا وانا حاسس بالغربة. وياريت تيجي تحضري الندوة معايا بكرة.
- اكتبلي العنوان وانا هاجي.
كتبت لها العنوان، ثم صافحتني. وقالت متهكمة،
- إيه دا حضرتك بتسلم ؟ مش السلام على الستات حرام ؟
- لا مش حرام . وبعدين في حاجات تانية حرام أكتر . الفقر والحروب والاستبداد والاعتداء على حقوق الناس. انا بسلم وببوس كمان على فكرة.
ثم طبعت قبلة سريعة على يدها كجنتل مان في أفلام الستينات. ثم تركتها. ولملمت حاجتها ومشت.
ورحت استرجع كلامها من جديد.. فتحت المصحف على نفس الآيات .. وقرأتها مرة أخرى، وغصة في حلقي لا تتركني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق