محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الأحد، 24 مارس 2013

وستوتة تستحق مقال



*
برنارد شو الكاتب الساخر الإنجليزي الشهير كان ثريا للغاية، وكان يمتلك سيارة رولز رويس فارهة، ورغم ذلك كان من مؤسسي الجمعية الفابية التي هي نواة لحزب العمال قطب اليسار في بريطانيا والمدافع عن حقوق البسطاء والمهمشين. كان الرجل يشعر بمسئولية كبرى تجاه تلك الطبقات التي تعاني أكثر.

يقول هوبز، أن الدولة موجودة لإنهاء الصراع بين البشر بإعمال القانون، وموجودة لتنفيذ متطلباتهم التي يعجزون عن وفائها بأنفسهم. نحن نتنازل عن جزء من حريتنا للسلطة المختصة حتى تستخدم تلك الحقوق في إدارة الوطن وسداد الاحتياجات الرئيسية. وفرق القوة بين المواطن والسلطة هو الذي يخلق فكرة الدولة. وفرق القوة يجب أن يستخدم لصالح الناس ولصالح تلك الطبقات البسيطة قبل أي شيء.

يقول النبي في نهاية حديث، "لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها ولا يتعتعه". الرسول يريد أن يرشدنا الى وظيفة الجماعة، وتتمثل في اقتضاء حق الفقير ورعاية مصالحه والوقوف أمام الظلم والتمييز. طبعا الآية صارت معكوسة، أصحاب السلطة يستخدموها من أجل حماية أنفسهم ومصالحهم و تحقيق مكاسب من خلفها و القضاء على منافسيهم.

ما علينا، ومن امتى الناس بتلتزم بكلام النبي؟!

الانجيل يقول "احبوا أعداءكم " ولكن لا أحد يحب أحدا. والقرآن يقول "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " ولكن كل الناس تكذب وتتحايل وتخون العهود.

*

تلك مقدمة مهمة كي أقول أني مهتم بالبسطاء رغم انتمائي لطبقة برجوازية متوسطة. وأشعر بنعمة الله الحقيقية خاصة عندما أعود الى بلدتي الصغيرة في شمال مصر؛ حيث بيت أبي الذي قضيت فيه عمرا طويلا من التجارب والذكريات.

أصحى من النوم الساعة تلاتة الصبح جعان، أفتح التلاجة عشان آكل حاجة خفيفة، الاصناف متنوعة، بط – محشي – كفتة – بقايا صينية بطاطس، الأمر محير، ويجب ألا أفرط في طعام المساء. وينتهي المطاف بي وأنا غارق في طبق شوربة بلسان العصفور بينما ألتهم اصابع المحشو المكتنزة وأتبعها بقطع من صدر البطة المثير للغاية.

حينما فارقت الاسرة منذ سنين وانتقلت الى العاصمة تعلمت اشياء كثيرة، أهمها أن الفاكهة بتتشرى بالكيلو .. أيوه .. أنا كنت متخيل ان الفاكهة بتتشرى بالكرتونة. وان في موازين للحمة اسمها نص كيلو و كيلو إلا ربع. كنت إذا ذهبت مع أبي للجزار كان ينظر الى الذبيحة ويقول للجزار: "لا اللحمة دي مش عجباني النهاردة، عموما اديني خمستاشر كيلو لحد ما يجيلك حاجة كويسة!"

البطيخ بالنسبة لي كنت أظنه يوزع بالمجان. أو الدولة تزرعه وتنفق عليه ليكون ملكا الجميع. البطيخ كان بيجلنا في سيارة ربع نقل صندوقها الخلفي ممتلئ ويقوم السائق بإنزاله فرادى وجماعات.

نوزع نصفه على عماتي وبعض الجيران .. ثم يتبقى لدينا شيئا قليلا ( تلاتين بطيخة مثلا ) .. وحينما تركت البيت وأقمت بعيدا ذهبت مرة لبائع الفاكهة كي آخذ بطيخة، فاكتشفت أن البطيخ بيدفع فيه فلوس !! يا إلاهي !! لا وكمان سعر البطيخة 15 جنيه !! شعرت بالذهول وأن ثمة شيء خطأ في الأمر. وهنا عرفت ميزة أن تعيش في بيت أب منحه الله رزقا ميسورا. ومعنى أن يمر الفقير من أمام محلات الطعام فيشتهي ربع كيلو لحمة أو شقة بطيخ . فكان الأمر صادما وموجعا في ذات الوقت.

أمي قبل ما تنام قالت لي: "عندك بيتزا في المطبخ أنا عملتها مخصوص عشانك. وفي كحك وبسكويت وبيتي فور ولانكشاير لو حابب تاكل مع الشاي. وفي شيكولاتة سويسري في غرفة الطعام عشان لو سهرت ووجدت نفسك جائع."

أمي ناظر مدرسة ابتدائي وصحتها على قدها، ولكنها تعرف حقوق البيت، وإن الخير لازم يكون موجود. وعلمتنا شكر النعمة لأن هناك من لا يجد شيئا.

لدينا خادمة اسمها "ستوتة" فتاة عشرينية غير متعلمة، هزيلة البدن وشاحبة الوجه وهرمون التستيستيرون لديها أقوى بكثير من البروجسترون والاستروجين. لا ينقصها سوى لحية نابتة حتى تصير رجلا. وبعض الاشياء الأخرى !

ستوتة مش هتقضي العيد في بيتهم تاكل بيتيفور وتشرب شاي مع شيكولاتة سويسري. ولما بتصحى من النوم بالليل مش بتجد في التلاجة محشي وبط وكفتة.

سألتها ليه بتشتغلي في العيد، خدي اجازة يومين وبعد كدة ارجعي. قالت أن لديها أخت أصغر منها مخطوبة ودخلتها في العيد الكبير، وأبوها ميت.. عندها أكتر من أخ متزوج لكن كل واحد بيجيب عشا عياله بالعافية.

وستوتة رجل يرتدي زي أنثى، ولذلك فهي بتخدم في البيوت أكثر من خمستاشر ساعة في اليوم عشان تجهز أختها وتفرحها. ستوتة مسترجلة من غير ما تشرب بيريل، ومش مستنية حاجة مني ولا منك ولا من الحكومة ولا حتى من اخواتها.

*

بعد صلاة العشاء قال الإمام أنه يجب أن نبدأ التكبير ابتداءا من تلك اللحظة، ولكن أحد الإخوة السلفيين قاطعه على الملأ وقال أن التكبير يبدأ من يوم غد. كادت أن تحدث مشادة ولكن تم احتواء الأمر. يصطنعون مشاجرة من أجل قضايا فقه فرعية لا علاقة لها بأصول الدين أو ركائز الشريعة، ثم يتحول كل واحد فيهم الى بطل يدافع عن ضيعة الإسلام.

كلنا يعلم واقعة بني قريظة.. أرسل النبي صحابته إلى هناك وقال بشكل واضح لا لبس فيه "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ".. وفي الطريق دخل وقت العصر فاجتهد بعضهم وصلى العصر ثم استأنفوا السير، وكانت حجتهم أن النبي لا يقصد المعنى المباشر للكلام إنما يريد أن يحث على الإسراع، ولذلك قاموا بتطبيق روح النص لا منطوقه. وقال البعض الاخر نلتزم بكلام النبي الحرفي ولا نصلي إلا هناك.

و قابلوا النبي و حكوا له فأقرهم جميعا. الامر بسيط والله. والاختلاف في أشياء منصوص عليه جائز. وصرف اللفظ عن ظاهر معناه وارد. وعدم الالتزام بالنص والحيد عنه إلى المقصد أو المفهوم شيء أقره رسول الله. وهذا ما جعل فقيه كبير مثل نجم الدين الطوفي يبني الشريعة على "المصلحة" والشاطبي ينشؤها على "المقاصد". فلماذا نصر أن نصطنع حروبا وهمية لنتحول إلى أبطال زائفين ؟!

هناك حديث في البخاري فيه دلالات جيدة أيضا:

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. فأغضبوه. فقال لهم اجمعوا حطبا وأوقدوا نارا، وبعد أن فعلوا قال لهم ألم يأمركم رسول الله أن تطيعوني، قالوا بلى. قال إذن ادخلوا فيها.

الغريب أن بعض الصحابة كاد أن يدخل النار ويقتل نفسه حرقا التزاما بوصية الرسول أن يطيعوا الرجل. ولكن بقية الصحابة اجتهدوا في إثنائهم عن فعلهم وظلوا يدفعوهم بعيدا عن النار. ولما وصلوا للنبي وحكوا له غضب منهم وقال:

"لو دخلوا فيها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف."

الذين يلتزمون حرفيا بكلام الرسول كادوا أن يحرقوا أنفسهم ويتسببوا في هلاكها في الدنيا والآخرة. الرسول وضع ضابطا واضحا للالتزام بالأوامر والنواهي وهو أن يكون أمرا طيبا يؤدي إلى خير، وما دونه يقع باطلا، حتى لو كان الأمر والنهي صادران من النبي نفسه. اسمحوا لعقولكم أن تجد مساحة بعيدا عن جمود النص.

تلك خلافات تافهة صنعتها عقولنا المريضة ونفوسنا المتشنجة، وخلقتها عصور الاستبداد السياسي التي أرادت إلهاء الناس في اشياء أخرى غير حقوق الناس وأنظمة الحكم. فلينشغلوا في المساجلات بين الشعراء، في ماتشات الكرة، في قضايا الفقه الفروعي التي لا تقدم أو تؤخر. كل ذلك جيد.

*

طب بالنسبة لستوتة، هل في حد هينشغل بيها ويسأل عنها ويجوز اختها ويدخل الفرحة على قلبها. ولا الاختلاف حول تكبيرات العيد هيكون أهم !! لو لم تجد ستوتة وأمثالها حياة انسانية تحفظ لها كرامتها فاعلم أننا في مجتمع غير مسلم حتى ولو كثرت فيه الصلوات والتكبيرات.

من ذكريات عيد...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق