محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 19 مارس 2013

لينظر الانسان إلى طعامه .. خطابات مصحوبة بعلم الوصول

 

 

لاقيت صعوبات أرقتني لليلتين، فقد فكرت في نفسي أنني أستطيع إصدار تأشيرات المرور بصفتي قنصلا، أما ترك هؤلاء البشر يموتون فلست قادرا على ذلك. إنهم بشر لجؤوا إلي والموت يحوم فوق رؤوسهم. ليكن ما كان ما سأناله من عقاب، فأنا موقن بأني ملزم بعمل ما يمليه علي ضميري."

 

هكذا قال سيمبو سوغيهارا بعد أن عاد الى طوكيو من عمله كدبلوماسي في ليتوانيا , وبعد أن أجبر على التقاعد وترك العمل نظرا لمخالفته أوامر حكومته في عدم اصدار تأشيرات لليهود القادمين من بولندا تمهيدا لفرارهم الى احدى جزر الكاريبي عبورا بالاتحاد السوفييتي .

 

الحكاية يا ريم تبدأ عند هتلر , أثناء الحرب العالمية الثانية .. أنت تعلمين جيدا أنه كان يبحث عن اليهود ليقتلهم , وكانوا هم يفرون من كل بلد يدخلها النازي , فهربوا من بولندا الى ليتوانيا , وأرادوا الحصول على تأشيرة الاتحاد السوفييتي , ولكن السوفييت اشترطوا حصولهم على تأشيرة اليابان أولا , فلم يكن أمامهم إلا اللجوء الى القنصلية اليابانية في ليتوانيا .

 

وصدر قرار من الحكومة اليابانية بعدم منح اليهود أية تأشيرات .. وألزمت قنصلياتها بذلك .

 

ولكن سوغيهارا – وكان قنصلا عاما لليابان في ليتوانيا – لم يمتثل لهذا المطلب . ومنحهم التأشيرة . وبذلك استطاعوا الحصول على تأشيرة الاتحاد السوفييتي ومنه الى احدى جزر الكاريبي التي كانت تابعة لهولندا والتي لا تشترط الحصول على تأشيرة دخول .

 

ونجى آلاف اليهود من الموت المؤكد بسبب تلك المغامرة التي قام بها سوغيهارا مخالفا أوامر حكومته في ظروف عصيبة ومعرضا نفسه , على أقل تقدير , للفصل من العمل .

 

وفي عام 1947 بعد أن عاد الى اليابان وأجبروه على التقاعد وسألوه عن السبب رد بتلك العبارة السابقة .

 

قال لهم أنه ينتمي لعائلة من الساموراي التي تعلي من شأن القيم النبيلة .. الساموراي يتعلم فنون القتال حتى يصير القتل بالنسبة له أيسر من تناول جرعة ماء باردة في حر أغسطس . ولكنه لا يقتل ضعيفا أو مظلوما . لا يحارب إلا قويا مثله .

 

ولكن هتلر , هكذا شرح سوغيهارا , كان يقتل اليهود وهم يرتعشون ويصلون إلى الرب .. فهل هذه فروسية ؟!

 

سوغيهارا الان يعتبر احد رموز الفروسية والشهامة والتضحية من أجل القيم النبيلة . ما هو النموذج العربي المسلم الذي يقبع في العقل الجمعي للبشر ؟؟ النموذج هو بن لادن يا ريم ! القتل باسم الرب . وحديثا صار قتل السفير الامريكي في ليبيا . والان تتداول وسائل الاعلام العالمية اعدام خادمة من سيرلانكا تعمل في السعودية نظرا لاتهامها في قتل رضيعة أثناء رضاعتها رضاعا صناعيا .

 

لن أناقش القضية ولا مدى ثبوت التهمة .. ولكني اناقش طريقة تنفيذ حكم الاعدام .. رجل ضخم يقف وراءها يحمل سيفا مخيفا ثم يجز عنقها ويفصله عن جسدها !

 

لماذا هذه الوحشية يا ريم ؟!

 

العالم كله يجتهد في صنع صورة مشرفة عن نفسه وحضارته وتاريخه , لقد صار علما مستقلا يا ريم في الدعاية والاعلام وصناعة الرأي العام self image وهذه الصورة تنعكس بشكل ايجابي على الاقتصاد ومعدلات السياحة والاستثمارات .

 

هذه هي القوة الناعمة لأي دولة تستخدمها في غزو الاخرين ونشر قيمها وثقافتها بل ودينها أيضا .

 

يجب أن تعلمي يا ريم حقيقة مفزعة , وهي أن نصف سكان الكرة الارضية لا تؤمن بالديانات السماوية الكبرى . اكثر من 3 مليار انسان لا ينتمون لتلك الرسالات . ربما يؤمنون بالبوذية أو الهندوسية , وربما لا دين لهم على الاطلاق , وهؤلاء يعدون بمئات الملايين إن لم يكونوا مليارات .

 

وتلك مساحة خصبة يجب العمل فيها . بدلا من البحث عن كاميليا شحاتة وإثارة زوابع لا قيمة لها , فهناك مئة مليون كاميليا شحاتة في وسط وجنوب وغرب افريقيا تنتظر الدعوة , وكذلك في آسيا وأوروبا .

نحن نؤمن بعالمية الاسلام يا ريم .. ونؤمن بالهداية القائمة على الاختيار والاقتناع والحب .. وعدم الاكراه في العقيدة .. فلا مفر من استخدام تقنية الـ self image لنشر الدين .

 

نزعم تمسكنا بتعاليم الاسلام وتقاليد الرسول في جزئيات وفروع ومرحليات غير ملزمة , ونترك جزور الدين وأصوله .. كتاب أنزله الله لنخرج الناس من الظلمات الى النور .. نور الهداية الى الله , والعدل في الدنيا , والعمل الحسن , والتأمل في عظمة خلق الكون , والتمتع برزق الله من طعام وشراب وزينة .

 

وكيف ننظر في خلق الكون يا ريم ونحن لا نمتلك وحدة رصد كوني مثل ناسا ؟

وكيف نتمتع برزق الله , ونحن دول لا تزرع ما تأكل ولا تحصد ما تزرع , فصار رغيف الخبز من امريكا وطبق الفول من الصين , وكيف نعدل في الدنيا ونحن أمة تمارس القمع داخليا ويمارس عليها القمع خارجيا من قوى عظمى تمتلك السلاح والعلوم . وكيف نتحدث عن العمل الحسن ونحن شعوب كسولة تفضل الفهلوة والتزويغ على الاتقان والاحتراف ؟!

 

الرسول قال في خطبه الاخيرة , ألا فليعلم الشاهد الغائب , فرب مبلغ أوعى من سامع .

 

الرسول يوصيك بأن تحمل أمانة نقل العلم لغيرك لكي يستفيد منه الاخرون .. كما أنها رسالة تبشيرية لنقل تعاليم الدين إلى الدنيا كلها .. بالكلمة . والسيف حماية ضد الباغي .

 

أول آية نزلت للقتال يا ريم كانت الآية 39 من سورة الحج ( أذن للذين يقاتلون أنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) كان المسلمون يمارس ضدهم كل انواع الظلم والإذلال والاضطهاد ولم يكن مصرح لهم برد الاعتداء أو حمل السيف .. فقط الدعوة بالحسنى والصبر على الأذى . ليرسخ داخلهم هذا المعنى , نشر الإيمان بالحوار الحسن القائم على الاقناع ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( هل عندكم أثارة من علم تؤتوننا بها ) أيضا فكرة التضحية .. ثلاثة عشر عاما على هذا الحال يا ريم , ثم نزلت آية سورة الحج , بأنهم ظلموا بما فيه الكفاية وجاء وقت مواجهة الظلم بحسم لأنه لن ينتهي إلا بتلك الطريقة .

 

المسالمة والتضحية والحوار مع الكافة , ثم ردع الظالم بحسم دون تجاوز أو اعتداء .. أليست هذه ساموراي ؟ لماذا اذن لا يكون الاسلام هو النموذج الاخلاقي العالمي ؟! تلك أمنيتي .

 

نعود للصورة الذهنية العالمية عنا , وإلى سوغيهارا , ووصية الرسول لنا بالبلاغ , والخادمة السيرلانكية وبن لادن .

 

لقد أوصانا الرسول بأن نترفق بالذبيحة من الحيوان حين ذبحها , فما بالك بالانسان .

 

بين يدي حديث شداد بن بن أوس كما أورده الامام مسلم , قال الرسول " إن الله كتب الاحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ".

 

هل تتخيلي يا ريم أن رجلا منذ 1500 سنة في صحراء الجاهلية , حيث القتل واراقة الدم والسفاح والاستهانة بكل الحرمات , يوصي بإراحة الحيوان ؟! وقتها في اثينا , قمة الحضارة , كانوا يتحدثون عن أن المرأة مخلوق بلا روح ويجوز لزوجها قتلها وقتما شاء , وبعد بعشرات القرون تحدث رعاة البقر , قمة الحضارة الان , عن أن الهنود الحمر لم يخلقهم الرب من روحه , وكذلك السود .. بينما محمد يتحدث عن مشاعر الحيوان !

 

ولذلك غضب بشدة عندما وجد رجلان يتحدثان في عرض الطريق بينما هم ركوب على ظهر دوابهم .. وقال لهم إن اردتم الحديث فاهبطوا , ولا تتخذوها كراسي , فلا تتأذى الدابة في غير محل ما خلقت له . كما روى الطبراني وابن حبان .

 

بعضهم يريد أن يتوسم سنة النبي ظاهريا , وهي غير مقصودة , ويترك العلة والمقصد , وهو المستهدف .

 

لست أدري لماذا لا يوقدون النار في وسط بيتهم على حطب جاف ليعدون الطعام في قدر بدائي الصنع , كما فعل الرسول , بدلا من استخدام بوتاجاز كريازي بومبيه , أو ميكروويف ؟!

 

الله شرع الحج بشكل واضح في القرآن بوسيلتين هما , مترجلا على قدميك أو على ظهر ضامر , وهو الحصان ضامر البطن .. وعكسه الابجر , وهو الحصان عظيم البطن .

يقول الله ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )

 

لماذا الطائرات البوينج الامريكية إذن ؟ لماذا السيارات اليابانية ؟ لماذا البواخر الكورية ؟

**

الكلمات القليلة ذات القيمة قد تكون أكثر قدرا وانتشارا من الاف الصفحات .. لذلك نجد أن الكثير من المفكرين العظام تنتشر لهم جملة أو جملتين أكثر من انتشار كتب ومقالات .

 

القرآن استخدم هذا التكنيك , بقصر معظم آياتة , حتى أن أطول آية , وهي آية الدين , لا تتجاوز صفحة واحدة .. وكذلك الرسول بلور الكثير من أفكاره في جملتين أو ثلاثة .. ربما جملة .

 

نستطيع أن نحفظ هذه الجمل الاسلامية , وندمجها بالثقافة الوطنية وبالعقل الجمعي وتكون شعارا للدعوة والرأي العام العالمي عنا . وكما ذكرت لك في خطابي السابق أن طريقة التدين وطريقة فهمنا للدين تنعكس على الاقتصاد والتنمية واحترام القانون والعلاقات الانسانية .

 

الزراعة :

 

يقول الرسول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم :

 

"ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير ولا إنسان إلا كان له به صدقة " .

صارت حرفة الزراعة مهجورة في بلادنا يا ريم .. الارض يتم تجريفها والبناء عليها بكتل خرصانية قبيحة , بل ومخالفة لقوانين البناء ايضا .

صار الفلاح لا يشعر بالفخر بحرفته , وبعضهم في المدينة يستحي أن يذكر مهنة أبيه لو كان مزارعا في الحقل .

 

والنتيجة أننا نخسر من الرقعة المزروعة ولا نستصلح أرضا جديدة .. فتنهار الزراعة ومعها ينهار الدين .

 

تستطيع أن تزرع الارض وأنت تشعر بأنك بذلك تصير أكثر تدينا وأنك تحمل داخلك عقيدة إيمانية بأن الله يرضى عن عملك ويجزيك عليه ثوابا عظيما قد يكون سببك في دخولك الجنة .

 

كم مرة يا ريم ذكروا هذا الحديث الصحيح الواضح على المنابر في القرى والمدائن , وكم مرة ذكروا روايات أخرى لا سند لها من أجل نشر تدين ظاهري سطحي يبعث على القبح والكراهية والتكاسل ؟!

 

ليس دين الله هذا الذي يقولوه ياريم ولكنه دينهم هم .. روايات وفتاوى وأهواء .

 

استراتيجية امريكا في ادارة العالم جزء كبير منها يتوقف على الغذاء .. الزراعة .. لأنها إحدى وسائل الهيمنة.. طعام الناس سيظل أحد معارك الحياة رغم كل التقدم . ومن يمتلك الطعام يمتلك الارادة والسياسة والمصير .

 

الله يخاطب الناس ليدلهم على وجوده ( فلينظر الانسان الى طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الارض شقا . فأنبتنا فيها حبا . وعنبا وقضبا )

 

فنظرة الانسان الى الطعام والزروع فيها عبادة وإيمان ويقين .. هل علمنا الناس أن الطعام جزء من الاهتداء الى الله الخالق !

 

الكثير من المؤمنين الحقيقيين يقبعون في الحقل , لا في المجالس النيابية ولجان وضع الدستور , أو في الفضائيات والمنابر !

 

العمل :

 

يقول الرسول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن الزبير بن العوام :

 

"لأن يأخذ أحدكم حبله , فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها , فيكف الله بها وجهه , خير من أن يسأن الناس أعطوه أو منعوه ."

 

هل تعرفي يا ريم أن بعض الفقهاء حرموا المسألة مع القدرة على الكسب ! لقد احترفنا التسول يا ريم افرادا ومؤسسات ودول .

 

في كل شارع هناك متسول يستحق وعشرة يستطيعون العمل .. وصارت اعلانات "الشحاتة" أكثر من إعلانات السمنة .. ودولتنا صارت أكبر دولة متسولة بعد انتصار مصر الثورة وصيرورة الحكم في يد رئاسة اسلامية ملتزمة !

 

ونريد تطبيق الشريعة !! الشريعة هي القيمة المضافة في العمل والانتاجية والكفاية .

يقول المواردي في كتابه أدب الدنيا والدين , أن الله قال لرسوله ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) . أي إذا فرغت يا محمد من شئون الحياة وموجبات الدعوة فصل إلى ربك نافلة , وليس العكس .

 

والحديث الشهير الذي جاء فيه أعرابي الى الرسول يستعلم عن الاسلام .. فأرشده النبي الى الصلوات المكتوبة وصوم رمضان والحج لمن استطاع والزكاة على كل قادر .

 

فأقسم الاعرابي أنه لن يزيد عن ذلك في نافلة أو تطوع .. فقال الرسول "أفلح إن صدق" .

 

القليل من العبادة وعلوم الدين يكفي , والقليل من الانتاج لا يكفي .. والانتاج يأتي من العلم والعمل , ونحن أمة جاهلة وكسولة , فأين الدين إذن !

 

أعتذر يا ريم عن الاطالة وأعدك بمواصلة الكتابة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق