محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

السبت، 16 مارس 2013

إحياء أصول الدين

دعيني أذكرك بهذا الموقف يا ريم لتعلمي أنه دين يقوم على الرحمة وتفهم نوازع النفس البشر من ضعف وتسرع.

كان الرسول ، كما يروي البخاري ، يقف على المنبر يخطب لصلاة الجمعة ، وفجأة دخلت العير إلى المدينة ، والعير هي الجمال المحملة بالبضائع وعروض التجارة .. فقام كل من في المسجد تقريبا عدا بضع نفر وانصرفوا إلىها .

لاحظي يا ريم أن من بالمسجد هم الصحابة .

... وأنهم تركوا الصلاة وغادروا .

غادروا صلاة الجمعة يا ريم .

والرسول هو الإمام !

إنها عدة أخطاء مجمعة تجعل منه ذنبا كبيرا .

ما الذي حدث بعدها ؟

هل نزل القرآن يفسقهم أو يشكك في إيمانهم أو يصمهم بالنفاق ؟

لا ..

نزلت سورة الجمعة ، وفي نهايتها آيتان .. الأولى تتحدث عن الاهتمام بصلاة الجمعة خصوصا وترك متاع الدنيا ، وبفروغ الصلاة ننتشر في الأرض لنبتغي من فضل الله . فكما أننا مأمورون بالصلاة فنحن أيضا مأمورون بالانتشار في الأرض بالعمل والإنتاج .

ثم كانت الآية الثانية تذكرهم أن ما عند الله خير .. هذا كل شيء. ببساطة واختصار.

لم يلجأ القرآن لإصدار حكم متعجل على فعلتهم التي قد لا تكون هينة .. تخيلي لو حدث هذا في عصرنا ، أن ترك أحدهم صلاة الجمعة كي يلبي غرضا ماديا واضحا أو من أجل مكسب مالي معلوم .. أعتقد أنه سيصير لبانة في أفواه الإخوه على أنه ضعيف الإيمان ومنافق.

طبعا لا أطلب من أحد أن يفعل ذلك ، ولكني فقط أذكرهم كيف تعامل الإسلام مع الضعف البشري .. قمة الرقي والرحمة والعفو .. والتوجيه اللين .. أصل ربنا مش قاعد لنا ع الوحدة يا ريم.

في حديث آخر عند البخاري يرويه ابن عمر ، أن الناس كانت تأتي للرسول لتبايع على السمع والطاعة .

وكان الرسول يضيف كل مرة جملة : فيما استطعتم .

الناس من حماستها في بداية الإسلام تعلن الالتزام الكامل .. والرسول حريص على التخفيف وتلمس ظروفهم وعدم إرهاقهم أو تحميلهم ما يبعث على المشقة والعنت .

يعني يا ريم بالعامية بيقول لهم : يا جماعة اللي تقدروا عليه .

وشعاره : كل شخص على قدر استطاعته ، واجعلوا الدين ملائم لحياتكم .. فلا تجعلي استثناءات في حياتك من أجل الدين . إنما العكس . الدين هو الذي يجعل من أحكامه استثناءات من أجلك انت .. فيسمح لك بالتيمم والقصر والجمع وعدة من أيام أخر في الصوم .

لذلك لخصت الآية هدف الرسالة ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )

يعني الدين جاء يا ريم ليخفف عنهم الأحمال ، ويحررهم من القيود .. هل نفهم الدين على أنه تخفيف وتحرير ، أم نفهمه أنه أثقال وقيود ؟؟ الفارق يشرح بوضوح أين نحن من هذا الدين المظلوم على أيدينا.

*

دعيني أختم بحديث آخير ، قد لا يكون ذا صلة قوية بالموضوع ولكنه يتماشى مع السياق ذاته .. كيفية تعامل الرسول مع النفس البشرية . وأنه لا يميل للحكم على أخطاء الناس بألفاظ قاسية ، وأنه يناقشهم بالحسنى ثم يتركهم لربهم .

أنت تعلمي مكانة علي بن أبي طالب لدى الرسول ولدى التاريخ الإسلامي .. لن أطيل في ذلك، هو صحابي مبشر بالجنة وخليفة وزوج بنت الرسول وقال له الرسول أنت مني كهارون من موسى لولا أنه لا نبي بعدي .

يروي البخاري في كتاب المغازي ، عن بريدة ، أنهم أثناء توزيع بعض المغانم قبض علي بن أبي طالب الخمس . فقال بريدة : أنا أبغض علي !

ولما ذهبوا لرسول الله حكى بريدة ذلك . فقال الرسول : لا تبغضه إن له أكثر من ذلك .

الأمر خطير يا ريم .. صحابي يقول للرسول بوضوح شديد أنه يبغض / يكره علي بن أبي طالب ! لمجرد خلاف على الاستحقاق المالي .

انظري كيف تصرف الرسول .. لم يقم الدنيا ويقعدها ويصم الآخر أنه يسب صحابي أو يعلن عداءه له أو بذلك سيهلك في النار لأنه يكره رجلا يحبه الله والرسول . لم يقل له أنت شخص جشع ومادي وحقير وحبك للدنيا جعلك تكره رجلا من أهل الجنة . لم يقل له انصرف عني أيها الفاسق المفتون المهزوز العقيدة .

بل ناقشه الرسول بشكل واقعي وأن ما أخذه علي هو حق له .. فقط .

وبذلك ينتهي الموقف وتنتهي الرواية .. أكرر ماذا لو حدث ذلك في يومنا هذا ؟؟ أعتقد أن الحروب ستشتعل لكلمة كتلك وسيقتل بعضنا بعضا .. إنهم لا يتشبهون بالنبي ولم يفهموا بعد سنته .

عندما يسمح الرسول لرجل أن يبدي مشاعره حتى لو كانت صادمة فهو يحمي المجتمع من النفاق والازدواجية والأمراض النفسية .. إنه يجعله مجتمعا سويا لا يضمر عكس ما يظهر . ولم يلاحقهم الرسول بالعقوبة أو الاتهام أو التنكيل . أيضا هو يعطيهم الحرية .. الحرية في التعبير عن مشاعرهم حتى لو بدت صادمة .

الحق في التعبير عن وجهة نظرك دون أن تخاف أن يلاحقك أحدهم بالاتهام الديني أو التكفير أو الاعتداء هو حق إسلامي صرف .

فهل نحن يا ريم لدينا ذات الحرية في التعبير عن مشاعرنا والتي كفلها الرسول لصحابته والتي بلغت حد إعلان كراهية زوج بنت الرسول المبشر بالجنة !

يوسف ادريس كان يقول ، أن كل الحرية الممنوحة في الوطن العربي لا تكفي كاتبا واحدا ليقول كل آراءه .

أعرف أنك يا ريم مثلا غير مقتنعة بفرضية غطاء الرأس .. وإن كنت تؤكدين على وجوب "الاحتشام" بصفة عامة . وأن ما يعصم المرأة هو التعليم الجيد وعدم الابتذال والعقل المتزن ، والمجتمع الذي يعلي من شأن الفضيلة . وأنك ترفضين الخلاعة والتسيب كما ترفضين النقاب والتشدد . ولكنك لو قلت ذلك سيصفونك بالكفر على أول محطة . أو الإنحلال على أقل تقدير .

رغم أن رئيسة إذاعة القرآن الكريم في فترة من الفترات لم تكن محجبة !

وكان المشايخ يدخلون ويخرجون ولا يبدي أحدهم تعليقا على ذلك .

ولكن هذا كان في زمان آخر برجال أخرين بنسخة إسلام مختلفة .. وهذا الزمن لم يشهد هذا الكم الهائل من التحرش والاغتصاب وعدم الأمان الذي نعيشه .

دمت بخير أميرتي.. وعسىاها تكون جمعة طيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق