محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 19 مارس 2013

آية ..

 

 

 

الأرض لا تنسى


*


منذ أن كانت طالبة بالثانوية العامة وهي الأبرز وسط فتيات الفصل والعائلة والشارع الذي تسكنه.


إنها أجمل فتاة سمراء تقع عليها عيناك.. لدينا تحيز في المنطقة الشرقية تجاه بيض البشرة، ولا نعترف أن الفتاة السمراء قد تكون فاتنة أيضا. إنها تحتاج إلى جهد مضاعف حتى تبلغ مبلغ الفتاة البيضاء في الثناء. ولكن آية الشربتلي كانت آية حقيقية.


لا يوجد تعريف ثابت استقر عليه الباحثون في علم الجمال.. يقولون أنه التناسق بين أجزاء الشيء مما يؤدي إلى انعكاس داخلي بالارتياح . لا أدري، ولكن آية الشربتلي جميلة بشكل ملفت. وجهها هادئ لا تبين عليه ملامح غضب أو تعالي، وابتسامتها واسعة وعيناها متطلعة.


جسدها منحوت بعناية، وملابسها تزحف بحذر وتستدير برفق، لا تصف لك أي شيء، في ذات الوقت، لا تحرمك كل شيء.


تمشيء ببطء ولكنها تختفي بسرعة، كنسمة شاردة في حر أغسطس تداعب وجهك ولكنك لا تمسكها بيدك. وتغيب فتنبت الارض من أسفل كعبيها زهور البنفسج.


كانت مطمع القادمين من الخليج بعد رحلات عمل شاقة.. ومطمع ابن خالتها الذي أنهى الهندسة.. ومطمع وليد ابن الحاج عبد القادر تاجر الموبيليا الاشهر. يحوطها وهي تمشي بسيارته الألمانية ويحاول أن يصطنع محادثة وهمية في الموبايل أثناء القيادة ليبدوا منشغلا بشيء مهم. ولكنه في الحقيقة يستعلم عن رصيده.


تنظر للجميع من طرف عينيها وتعلم تأثيرها جيدا ..


*


هناك قاعدة تقول أن السمراوات يتزوجن أولًا.. وآية فتاة سمراء، لذلك انطبقت عليها القاعدة.


حسام بك.. ضابط شرطة شاب يعمل بالأمن المركزي، وسليل أسرة كل من فيها لواءات كبار بالداخلية. ويريد إكمال نصفه الآخر ولكن بطريقة تليق بقاعة باهظة في أحد الفنادق وأصدقاء النادي.


تزوج حسام وآية.. واتفقا على تأخير الحمل حتى تظل محتفظة برشاقة بدنها، ويستطيعا الاستمتاع بعض الوقت قبل قدوم أطفال.. حسام لا يحب تحمل المسئولية، وآية تفضل أن يظل خصرها منحوتا أفضل من أن يحاط بالشحوم الناتجة عن الحمل.


الغريب أنه قبل أن يتخذا التدابير التي تمنع الحمل في أسبوعهما الأول كان قدر الله قد نفذ، فصارت هناك علقة ناشبة في جدار الرحم.


ارتبكت آية في البداية حينما تأخرت الدورة الشهرية عن ميعادها الطبيعي، وحاولت أن تعزي الأمر إلى التقلبات النفسية، ولكن اختبار الحمل قد بدا ايجابيا. تحليل البول ومن بعده الدم.


كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة مساءا.. يومها كان حسام في نبطشية على طريق مصر / اسماعيلية الصحراوي في تمشيط دوري.. فكرت أن تنتظر حتى يعود في الصباح، ولكنها لم تستطع، فاتصلت به وأخبرته.


تبرم قليلا ثم صمت.. قالت له أنها لا تريد أن تضيع لحظات السعادة والاستمتاع التي تحلم بها.. ملابسها الجديدة لم ترتديها بعد .. وهي غير مستعدة أن تنمو بطنها وتمارس تقاليد امرأة حُبلى.


تعلم جيدا أن جمال جسدها لن يعود إلى سابق عهده بعد الانجاب.. وهي تخاف على هذا الجمال بشدة.


قال لها حسام أنه لا يتخيل نفسه أبا.. هو لم يحمل مسؤولية يوما في حياته.. ابوه اختار له الكلية واختار له القطاع الذي يعمل به واختار له آية. كيف له أن يصير مسؤولا عن إنسان آخر وهو اصلا غير مسؤول عن نفسه!


ثم اتفقا على إنزال الحمل.. حاولت بضع مرات وفشلت.. ذهبت للطبيبة كي تقوم بإجهاض فأخبرتها الطبيبة أنه خطر علىها و أنها معرضة لنزف.


عادت إلى البيت وهي تحمل حزنا يزيد وزنه عن وزن طفل في شهره التاسع، وصارت تصلي إلى الله كي لا يكتمل الحمل.. ولا تدري أن هناك من يصلي الى الله من أجل حمل كهذا.


واكتمل الحمل على كره.. وهما يلعنان اليوم الذي تسرعا فيه في الاختلاط دون التأكد المسبق من استحالة حدوثه.


*

إنه يذكر ذلك اليوم جيدا.. كان متوترا بشدة. التقاليد الشرقية تربط بين قدرة الرجل على المعاشرة في ليلة الزفاف وبين كرامته كرجل، مما يصيب البعض بعجز مؤقت. علم الطب يعرف تلك الحالة جيدا ويضع لها تعريفا: عقم ليلة الزفاف. والفتاة تختلط لديها مشاعر الرهبة بالفضول، مما يجعله يوما مرتبكا.


الرجل يمر بمراحل ثلاثة نفسية وعصبية وعضوية، يجب أن يغلفها الحب والأمان.. والمرأة لديها مرحلة واحدة هي الحب والأمان.


لا يذكر التفاصيل، ولكنه يذكر أنه أتم الأمر بنجاح.. لا تزال الرسالة باقية على هاتفه والتي أرسلها إلى أصدقاءه بعدها، كتب لهم


mission done


*

و في يوم الكريسمس تأهبت للخروج .. الجو بارد والسماء ملبدة، فجأة شعرت بتقلصات شديدة في بطنها، ثم انفجر كيس الماء المحيط بالجنين وتسرب الى الخارج.


اتصلت بأمها فحملتها مسرعة الى مستشفى للولادة.


وفي لحظات كانوا يجهزوها للوضع.. مر بعض الوقت، ثم خرجت الممرضة وهي تحمل طفلة ملفوفة بين يديها. ثم توجهت بها مباشرة الى الحضان لأنها غير مكتملة النمو.


جاء الجميع وهنأوها على الوضع.. ولم تكن سعيدة.. الولادة كانت قيصرية وجرح بطنها لن يعود إلى طبيعته السابقة وسيتسبب في ترهلات. و في نهاية اليوم عادت الى بيتها.


وبعد ثلاثة ايام جاءهم خبر أن البنت الوليدة، التي سموها فريدة، حالتها متدهورة.. أيام أخرى وجاءهم خبر وفاتها!

أمها قالت لها، ابن التامن مش بيعيش.. هؤلاء النسوة يعرفن الكثير فيما يبدو.


*


مرت عشر سنوات على تلك الاحداث.. لقد تجاوزت الخامسة والثلاثين من عمرها، ولم يتكرر الحمل!


بعد وفاة طفلتها الأولى أمسكت عن الحمل لمدة ثلاث سنوات، حتى شبعت من كل شيء، ثم اشتاقت الى طفل.. وحينما رغبت فيه لم يأت.


أخذت هرمونات منشطة حتى انتفخ جسدها ونبت لها شعر خشن في وجهها، دون فائدة.. ضاعت الرشاقة ولم يأت الولد.


ها هي تجلس لتحكي وتتلهف وتندم، ثم تخرج مرآة صغيرة وتنظر فيها بحسرة وتقول، لقد كنت جميلة وكان الكل يرغب في نظرة. من يصدق أن هذه هي آية!


تنتحي ركنا في غرفتها وتقف تصلي الى الله من أجل الحمل.. في نفس المكان الذي سجدت فيه تدعوا الله كي تتخلص منه.. لقد نست ذلك، ولكن الأرض تتذكر فلا تنسى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق