محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الأحد، 17 مارس 2013

الطفولة

في المرحلة الابتدائية كنت جادا إلى أقصى درجة مع الفتيات .. لا أتحدث معهم ولا أسمح لهن بالحديث معي . كنت طالب متفوق أزور المكتبة بانتظام وأواظب على الصلاة وأرأس الفصل وأدير طابور الصباح . شخصية قائد حقيقي لا يحب العبث ولا يسمح لشيء أن يعطله في طريقه لقيادة عالمه الصغير.

وعندما تتنامى داخلي مشاعر مجهولة لدى إحداهن كنت أقاومها بسرعة ولا أسمح لها بالتمدد .. مثلا كانت زميلتي أميرة تجلس في الصف المجاور لي تماما .. شعرها جميل ومنسدل ، ومريولتها قصيرة ومهندمة ، وتكتب بخط صغير ومنمق . وتتحدث بجراءة واضحة .

وكانت أثناء الحصة تحاول تبادل الأدوات معي . أوافق مرة وأرفض مرات . فتضحك بصوت عال وتقول : محمد بيتكسف من البنات ! وشك أحمر خالص .. أرد بغيظ : دا لون وشي الطبيعي . مش عشان مكسوف ولا حاجة.

لا أحد يدري من أين تنبع تلك المشاعر الفطرية التي تقودنا لبعض التصرفات في فترات مبكرة من طفولتنا قبل النضوج .

 



وعلى عكس أميرة كانت نور .. خجولة صامتة هادئة . عيناها واسعتان تلاحظ كل شيء وتختزنه داخلها .

لم أكن أعلم أنها تتابع كل تحركاتي بشغف شديد . وأنها تهتم بكل شئوني دون أن أدري . مثلا ، كنا نجمع كالعادة مبلغ من كل طالب لشراء لوحات حائط .. وفي الأثناء وجدتها تقترب مني وهي مرتبكة وتقول بصوت منخفض : على فكرة انت دفعت خمسين قرش ونسيت تاخد الباقي .. كيف لاحظت ذلك رغم أنها ليست المسئولة عن جمع الفلوس؟ ولماذا هي مهتمة لهذه الدرجة!

إحدى المرات كنت متغيبا عن المدرسة لعدة أيام بسبب مرضي . فذهبت لأحد أصدقائي وسألته عني . وأعطته أوراقا مكتوب فيها كل الدروس التي فاتتني . وأوصته أن يبلغني سلامها .. وفي الأيام التي تغيبت فيها أرادت المدرسة المسئولة عن فصلنا إقامة مسابقة لتعيين رئيس الفصل ، أو كما يقول طلاب المدارس البرجوازية alpha .

وبعد أن كادوا يستقروا على أحد الطلاب ، قامت نور ، رغم خجلها وارتعاشة صوتها ، وقالت للمدرسة : يا أبلة زميلنا محمد غايب عشان تعبان . وهو أفضل واحد يكون رئيس الفصل . ممكن نستنى يومين لحد ما هو يرجع .

الغريب ان المدرسة أعجبت بموقفها وقررت فعلا تأخير ميعاد المسابقة لحين عودتي .

وعندما علمت ذلك شعرت بسعادة شديدة . هناك من يذكرك عندما تغيب ويشغل نفسه بأمورك وينتظر رجوعك . ربما تلك المشاعر ساهمت في شفائي . خاصة أنه كان مرض له علاقة بالأعصاب ، والحالة النفسية مهمة فيه .

لم يدافع عني أو يتذكرني أحد أصدقائي الفتيان .. إنما فعلت ذلك فتاة خجولة سمراء تجلس في الصفوف الخلفية ولا ينتبه لها أحد.

ربما مرت عشرين سنة دون أن أرى وسام ، ربما تزوجت وأنجبت وصار أطفالها من عمرنا عندما كنا في الفصل .. لا أعلم عنها شيء سوى أنها قدمت لي تذكرة العبور للحياة والحب والمشاعر الإيجابية الجميلة ، وعلمتني أن البشر بتلك التصرفات قد يكونوا عظماء ، حتى لو كانوا بسطاء أو صغار السن .

يومها توليت منصب رئاسة الفصل، ولازلت أذكر أن ذلك كان بفضل، فتاة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق