أبو مسعود والبالونات

جلس ابو مسعود الانصاري وسط رفاقه يتحدث لهم.. الهيبة تعم المكان والحرص على الاستماع يظهر على الوجوه.

قال لهم، لم أرافق النبي كثيرا، ولكني حفظت بعض كلامه كما احفظ اسم أولادي .. أذكر ذلك اليوم جيدا .. لم أر النبي اشد غضبا في موعظة أكثر من هذا اليوم .. الحمرة تعلو وجهه الاشهب ، وصوته الأجش كان يزلزل المكان .. والانفعال يقطع مفاصله .

قال الرسول لنا : إن منكم منفرين .

يا الله.. صحابة رسول الله ، منهم منفرين من دين الله !! انهم الاكثر وفاءا واخلاصا وتضحية .

الحكاية تبدأ من رجل ذهب الى الرسول يقول له أنه لا يصلي في المسجد ، لأن فلانا يطيل الصلاة . فسارع النبي بعقد موعظة استثنائية لمواجهة الأمر .. ربما يكون حدثا بسيطا وفرديا في نظر البعض ، ولكن نقطة الماء بعد عدة سنين تفلق الحجر .. والشرخ لو ظهر في وجه الصخرة فإنه يطول باطنها مع الزمن ، فتنكسر وتنهار .

النبي يرى الشرخ الصغير ويسارع الى محاصرته قبل أن يمتد الى القلب .

وقف النبي يعظهم ويقول : "إن منكم منفرين ، من أم منكم الناس فليخفف . فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة ." كما جاءت رواية البخاري من حديث رقم 90 في كتاب العلم .

لاحظ ان النبي لم يعنف الرجل الذي يتخلف عن المسجد ، ولم يقل له أنت متساهل أو "بتتصلبت" ، ولكن عرف ان المشكلة تكمن في المسجد نفسه .. في الامام .. فالناس لا تكره المساجد إلا لو نفرهم منها من يجلسون فيها .

*

عبد الله بن عمرو بن العاص لديه رواية جيدة هو الاخر ، سمعها من الرسول وهو صبي ، ولكنه لم ينس المكان والزمان والحدث .

لقد كان الى جوار محمد (ص) في حجته الاخيرة والوحيدة ؛ حيث وقف للناس يسألوه ( لاحظ انه كان يقف مباشرة دون حراسة أو حجابة أو كردون أمني ) فكان يأتيه الرجل يقول له : حلقت قبل أن أذبح ، والذبح يسبق الحلق ، فيقول الرسول : " اذبح ولا حرج " .. يأتيه رجل ثان يقول : نحرت قبل أن أرمي ، فيقول الرسول : " ارم ولا حرج " .

ويختم عبد الله روايته قائلا : ما سؤل الرسول عن شيء يومها إلا قال : " افعل ولا حرج ".

( البخاري ومسلم )

الرسول يريد ان يجعل للناس من أمرهم سعة ويسرا ، حتى في شئون العبادة التي يفترض فيها قمة الانضباط ، وحتى في فريضة الحج والتي لا تتم إلا مرة واحدة في العمر .. فقط يبتسم لهم في هدوء ويطمئنهم .. لا حرج .

هل المتحدثون باسم الدين يقولون لا حرج ، وفق رواية عبد الله بن عمرو ، أم أنهم منفرين ، وفق رواية أبو مسعود ؟

*

بعض الولايات في امريكا تحتفل بمناسبة "يوم البالونات" !!

قبل أن تسارع بشتمي ، اعرف انه حدث تافه .. ولكن لو شاهدته ستدرك أنه أمر جيد .

الناس تمشي في الشارع مع اطفالهم وزوجاتهم واصدقائهم ، يتحدثون ويبتسمون ويتبادلون البالونات الملونة بألوان زاهية .. بعضها على شكل شخصيات كرتونية ، وبعضها على هيئة قلب كبير ، أو طائرة ، أو ثعلب متآمر .

لا توجد شرطة ، ولا يوجد عنف ، ولا توجد مصالح مادية تربطهم .. ينسون احقادهم وصراعهم على الحياة ويتجاورون مبتسمين حول أمر ترفيهي ، ويمارسون رياضة المشي في شمس الشتاء لساعات .

أعتقد ، لو أن بعض مشايخنا ذهبوا الى هناك فهم قادرون على افساد هذا المشهد باقتدار ، عن طريق اسئلة على شاكلة .. هل الاختلاط حرام ام حلال ؟؟ هل يجوز صنع بالونات على هيئة اشكال كرتونية وثعالب متآمرة ، أم أنها تعتبر من قبيل الاصنام أو التصاوير المحرمة ؟؟ هل يجوز مشاركة اهل الكتاب في احتفالهم .. للمسلمين عيدان .. الخ .

وفي النهاية موجة من التحريم والقتامة والتضييق على الناس ، وفقدان المشاركة التي قد يكون فيها اكبر انتصار للاسلام .. فالاسلام ينتشر بالحوار والتعايش والمسالمة .

وينسون ان الرسول كان يبتسم للجميع ، ويقول ، لا حرج.