محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الثلاثاء، 19 مارس 2013

عم صابر والاستفتاء

قابلته هذا الصباح في منطقة شعبية من أحياء القاهرة، يتناول إفطاره على مائدة خشبية صغيرة أمام محل فول.. لحيته بيضاء وجسده منحني وضئيل، و يداه تحمل لقمة صغيرة مرتعشة وينجح في تصويهبا إلى فمه ، ثم يتناول لقمة اخرى .

 


يرتدي جلبابا ضاع لونه وطاقية "شبيكة" كتلك التي يرتديها الفلاحون في الحقل. عيناه لا تشي بأي شيء سوى أنه قد تخلص من أعباء ماضيه وطموح مستقبله، لا يعيش إلا اللحظة، وعالمه هو طبق صغير من الفول ورغيف خبز.


وقفت عند المحل المواجه له أنتظر فروغه من الطعام. قام كي يدفع ثمن ما أكل ولكن الفتى في المطعم قال له: "علينا يا حاج بألف هنا." ، شكره العجوز بصوت خفيض ومشى.

 


ذهبت وصافحته واستأذنته في المشي معه.. اسمه عم صابر.. أتى إلى القاهرة من الصعيد منذ أكثر من أربعين سنة .. كان شابا في الثلاثين حديث الزواج، يبحث عن فرصة عمل ولا يحلم إلا بحياة عادية.. استأجر شقة صغيرة في منيل الروضة والتحق بالعمل في مدرسة فني صناعي.

 


ومضت به الحياة.. موظف صغير يتحايل على الحياة والرزق، وزوجته، ليلى، كأي امرأة مصرية تقوم على تدبير الاحتياجات بأقل قدر من التكاليف. أنجبوا طفلين، ولد وبنت، وحرصوا على تعليمهم وحسن تربيتهم.

 


يقول لي: " مراتي على مدار اربعين سنة عمرها ما حسستني ان ناقصها حاجة، وعمرها ما طلبت حاجة، كنت أسيبلها المرتب وهي بتتصرف، وكنت باخد مصروف زي زي العيال. بنت حلال شالتني كل السنين دي."

 


ويكمل: " يوم تطبخلنا بصارة ويوم بطاطس مهروسة، وآخر الاسبوع ممكن تجيب فرخة بتطبخها على مرتين عشان الاسبوع اللي بعديه متشرتيش. "

 


"والحمد لله العمر عدى على خير.. البنت الكبيرة خلصت كلية تجارة واتجوزت زميلها وعايشة في الشيخ زايد.. والولد مهندس.. وانا باخد معاش 400 جنيه، بيكفيني انا ومراتي. عمري ما مديت إيدي للحرام وعمري ما أكلت عيالي لقمة فيها شبهة. وعمري ما ظلمت حد وطول عمري في حالي."

 


ثم يسكت ويعود الى هدوئه.. خطواته، كنظراته، توحي بالسلام.. يحمل مسبحة صغيرة في يده يمرر حباتها بذكر الله.


*

هناك ناس طيبون يعيشون معنا في الحياة ، ولا يحلمون بشيء مبالغ فيه ولا يشغلون نفسهم بأي صراع أو تطاحن .. ويمضي بهم العمر دون اثارة مشاكل . والتواجد الى جوارهم يخفف من معدلات التوتر والخوف من المجهول.


سألته، وأين تمضي وقتك يا عم صابر ؟ قال لي أن لهم صديق قديم يجمعهم في بيته كل يوم ويقومون بحلقة ذكر تستمر لساعات ، ثم يقدم لهم مشروب دافئ ويتحدثون قليلا ثم يغادرون.


قلت له، "نفسك في حاجة يا عم صابر . أو زعلان من أي حاجة ؟" يبتسم ويقول، "الحمد لله ربنا كارمني".

 

أصافحه و اتركه، فيمشي إلى شارع جانبي صغير خافت الضوء، ويقف أمام بيت من طابق واحد غير مطلي ويطرق على باب خشبي صغير، مرت نصف دقيقة وفتح الباب فرجة صغيرة كافية لعبور جسده، وظهرت امرأة عجوز مثله يبدو أنها كانت تنتظر.

*

هؤلاء ناس لا يذكرهم التاريخ، ولا تروي عنهم كتب السير، ولا يصيرون ابطالا تخلدهم الحكايات.. إلا ان مواجهتهم لمشاكل حياتهم اليومية وما فيها من صعاب بصبر ورضا وتحمل، تجعلهم عظماء رغم أنهم عاديون جدا.

 


ثم سألت نفسي، هل هناك علاقة مباشرة للدستور أو التصويت بنعم أو لا بعم صابر ؟؟

 


مشيت الى مقر لجنتي ووجدت تجاذب بين الفرقاء، ملتحون ومنقبات وسافرات وشباب متحمس.. نظرت لهم و أنا أشعر بالحيرة.. دخلت اللجنة و أخذت ورقة وذهبت خلف الستار، وفكرت أن أكتب قصة عم صابر على تلك الورقة الرسمية وأن أضعها في الصندوق عسى أن يقرأها أحد السادة المهمين، فلربما يلهمهم عم صابر بأي شيء. أو يساعدهم في تهدئة الصراع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق