محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الاثنين، 18 مارس 2013

وصية أم عزة

 

ليس بالضرورة أن تقرأ ألف كتاب أو تحصل على دكتوراة في علم الأنثربيولوجي كي تفهم معاناة البشر ومشاكلهم وطريقة تفكيرهم في حياتهم اليومية.


وجوههم تحمل الكثير من العبر . وكلامهم العامي البسيط بتلك اللهجة المكسورة و التي لم تنضبط بعلم التجويد أو علم الصوتيات يلخص مشاكل وطن بأكمله عبر قرن من الزمان.


الكون ليس هو اتساع عينيك . هناك أشياء أكثر تقبع خلف حاجز رؤيتك الشخصية . ونحن كالعميان الذين تحسسوا فيلا ضخما فوصفه كل واحد منهم وفق الجزء الذي لمسه بيده . هناك من ظنه خرطوما اسطوانيا طويلا . وهناك من ظنه ذيل رفيع قصير . وهناك من ظنه هضبة فسيحة.


يجب أن نقفز فوق الحاجز الضيق الذي نحاوط به أنفسنا لنعرف أكثر . هموم البعض تكمن في نقص المسطردة الإنجليزي وهموم البعض الآخر نقص السولار وهموم فريق ثالث تتمثل في بحثه عن معتقد ديني يرضي تساؤلاته. وهموم فريق رابع غياب الحنان والرفقة.


ولكن المشاكل الاقتصادية وغياب الرعاية الصحية يقفان على القمة قبل المعتقد الديني وقبل الحاجة إلى الرفقة الإنسانية والحنان . الله ذكّر قريشا أنه وفر لهم حرما "آمنا" . وأمرهم بعبادة رب البيت الذي تفضل عليهم أن أطعمهم من "جوع" وآمنهم من خوف . فكأن الطعام والأمان هما طريق الشكر والإيمان والهداية إلى الرب.


حكايتي تبدأ غالبا مع وجوه الناس البسطاء . هؤلاء المتواجدين بكثرة في كل مكان ولكن لا تتوقف عندهم عيوننا . قد تتوقف لبرهة عند حذاء باهظ أو ساعة يد تلمع خلف الزجاج . ولكنك ستمر "بأم عزة" دون أن تشعر أنها هناك.


المؤرخون ومتخصصو السير والتراجم يخلدون ذكر الحكام والملوك والقادة وعلماء الدين . بينما كل هؤلاء لا قيمة لهم من دون ناس مثل أم عزة .. أم عزة لا يكتب أحد تاريخها . رغم أن حياتها فيها معاناة وألم وتجارب تفوق الكثير ممن يملأون كتب التاريخ . العظمة في أن تستطيع مواجهة الحياة القاسية بصبر وقدرة على التحايل على الصعاب .


ورغم كل شيء أم عزة تبتسم.


*


كل فترة أغوص في إحدى الأحياء الفقيرة لأتجاوب مع الناس هناك . عندما تكون كل مطالبك كيف تحصل على حقن الانسولين لعلاج السكر ، أو توفير ماءتي جنيه ثمن الإيجار ، أو احتياجات فتاة عروس يتم تزويجها بأقل تكلفة ممكنة ، أو ركوب الأتوبيس من أول الخط لتضمن مقعدا . لتوفير خمسين قرشا فارق أجرة الميكروباص.


كل النساء هنا اسمهن : خالتي.. وكل الشباب الذين يمرون إما حرفيين أو بلطجية ساذجين معدومي الحيلة وجسدهم هزيل يدعو للشفقة . والفتيات تحاول إبداء أنوثتها بملابس فقيرة، غالبا لم تشتريها، ولكنها استلفتها من ابنة خالها، أو هي ملابس اختها الكبرى، ولذلك ففارق المقاس يبدو واضحا.


النباتات في الربيع تتنافس فيما بينها على اجتذاب حبوب اللقاح . صراع الأنثى الأزلي على جلب أفضل فرصة ممكنة . والنتيجة تكون زهورا ملونة ومتعطرة مستقرة في تاجها بجلال يحملها ميسم رشيق. نتاج اللقاء بين الذكر والأنثى أحيانا يكون رائعا.


ولكن في الأحياء الفقيرة لا يكون نتيجة التزاوج زهرات مستقرة ومتعطرة . ولكن المزيد من الشقاء والمعاناة والألم.


إنهم يرثون الفقر كما يرثون خصائصهم الجينية . وكأن الفقر اندمج بالخلايا والعروق وقطرات الدم . فصار قدرا لا مناص منه.


كان برنارد شو الفيلسوف الانجليزي الأشهر له لحية كثيفة وغزيرة الشعر ، بينما رأسه أملس تماما لا توجد به شعرة واحدة ، فسألوه عن السبب ، فقال بسخرية:


"نحن في مجتمع رأسمالي؛ إنتاج غزير وتوزيع غير عادل !"


 

 


توقفت عند تلك البائعة التي تضع أمامها بعض الملابس الداخلية القطنية على طاولة خشبية صغيرة يسهل حملها على الرأس لو هاجمتها شرطة المرافق.


- سلام عليكم


- وعليكم السلام


- بكام الفانلة الرصاصي دي ؟


- باتناشر ونص


- كتير . عشرة جنيه كويس


- والله العظيم باخد فيها جنيه مكسب


- طب هاخد تلاتة بس ريحيني


هنا يتوتر المشهد ويحدث هرج . ويأتي شاب من آخر الشارع يصرخ : حملة . حملة .


تحمل المرأة الطاولة على رأسها وتجري بطريقة تثير الرثاء . إنها كبيرة في السن وجسدها هزمته الأيام والعيال . تعرج على قدم وينخلع منها حذاءها . ثم تدخل منعطف جانبي فتضع الطاولة وتقف لتلتقط أنفاسها . أمشي وراءها وأحمل لها الحذاء.


- انتِ كويسة ؟


- ألف شكر يا أستاذ .. ولاد الكلب مش سايبنا في حالنا.. يعملولنا محلات رخيصة واحنا نبيع فيها .. هو احنا يعني عجبانا التلطيمة دي.


- انتِ اسمك ايه ؟


- اسمي أم عزة


- لا الحقيقي


- اسمي منى


- طب يا منى هانم هتريحيني في التلات فانلات !


تضحك في براءة ومرارة ..


- هانم ايه يا بيه دا احنا عايشين بالعافية


- انت جوزك فين ؟


- جوزي ، يكفيك شر المرض عنده السكر . ورجله مقطوعة . وفضلت قاعدة بيه على بوابة القصر العيني يجي شهرين.


- انتِ اللي بتصرفي على البيت ؟


- ايوه . وابني في أولى ثانوي بيشتغل صبي عند ترزي بعد المدرسة


- وعزة ؟


- عزة في تالتة دبلوم السنادي . متقدملها ابن جارنا بس مش عارفة هجهزها ازاي


- انتِ ساكنة فين ؟


- في كوم الشيخ سلامة


- طب لو شيخ قالك ان النقاب فرض وانك عورة ولازم تقعدي في البيت، هتعملي ايه؟


- هشخر لدين أمه ..


- طب تعرفي إن التوجه الرأسمالي العالمي هو اللي عامل فيكي كدة !


تنظر لي في بلاهة وتظن أني ممسوس.


أكمل حديثي ..


- تعرفي فيلسوف فرنسي اسمه باسكال ؟


- لا والنعمة ما اعرفه .. هو ساكن عندنا في كوم الشيخ سلامة ؟


- هههههه . لا . كان بيقول للرأسمالين ، الخبز وحده لا يكفي . لازم يكون عندك بعد روحي عقيدي يقدم لك الإيمان بالله. وبعد اجتماعي انساني يقوم على الحنان بين البشر .


رغيف خبز بدون عقيدة وبدون حنان لا يساوي شيء . وإن الرأسماليين وجدوا رغيف الخبز ولكنهم لجأوا للخمور والمخدرات وحفلات الجنس الجماعي واصطناع الحروب في الدول الفقيرة لسد النقص داخلهم.


بلاش بسكال .. الأحوذي في شرحه للترمزي بيقول إن الرسول كان يدعو الله أن يكون رزقه مجرد قوت يومه . وكان بياكل من خبز الشعير . مش قمح .. يعني الرسول لو معانا مكنش استورد قمح . ومكنش اشترى ديب فريزر ستة درج. أو تلاجة توشيبا 18 آدم.


التشبه بالنبي صعب أوي يا ام عزة . إلا لو ربيت شعرك ولحيتك واقنعت ضميرك إنك كدة حلو.


- هو الأحوذي ساكن في سوق العبور ؟


- هههه لا الموسكي !


تعرفي يا منى إن لو كل واحد عنده رغيفين أكل واحد وأعطى التاني لغيره العالم كله يبات شبعان !


- أنا مش فاهمة حاجة


- مش لوحدك . في ناس معاها تلاتة دكتوراة ومش فاهمة برضو . عموما أنا هدفع تمن التلات فنلات ومش هاخدهم.


- لا يا بيه لازم تاخدهم


- طب تعالي نتصور الأول


أمسك الكاميرا وأباعد ذراعي وألتقط صورة


وقبل أن أغادر توصيني أن اكتب كلمتين يحننوا قلب الناس عليهم.


أبكي وأمشي تائها.


*


 


إن نعيم فئة قليلة من الناس إنما هو بسبب شقاء الفئة الكثيرة من الناس.


حقيقة حاولت الماركسية كسرها في القرنين الماضيين ولكنها سقطت في يد ديكتاتورية لينين ومذابح ستالين . وحاول الإسلام كسرها ولكنه سقط في يد ملك ظالم ورجال دين متنطعين.


بسقوط حائط برلين في ألمانيا الشرقة التي نشأت فيها الاشتراكية العلمية وبانهداد الاتحاد السوفييتي الذي طبق النموذج بشكل معوج ، أعلن النصر الأكبر للتوجه الرأسمالي المتوحش الذي يهدف إلى الوصول إلى أقصى ربح ممكن بغض النظر عن أي اعتبارات اجتماعية أخرى.


في السياق نفسه كتب استاذ علم الاجتماع السياسي الأمريكي "بيتر برجر" لأول مرة في التاريخ الغربي عام 1978 نظرية متكاملة تعتبر التوجه الراسمالي توجها عالميا يجب تطبيقه في كل مكان.


دعم ذلك ما حدث في بريطانيا على يد المرأة الحديدية مارجريت تاتشر أثناء فترة حكمها 1979 – 1990 حيث تبنت فكرا رأسماليا خالصا يميل إلى خصخصة كافة مشروعات ومرافق الدولة .


وكانت الخاتمة بكتاب المفكر الأمريكي ذي الاصول اليابانية فرنسيس فوكوياما والذي ذاع انتشاره ، وكان عنوانه نهاية التاريخ .. ويقول فيه أنه بانهيار الاتحاد السوفييتي فالصراع التاريخي وصل لنهايته ليبدأ عهد جديد أحادي للفكر الرأسمالي الليبرالي الغربي. لأنه يمثل النضج الأخير للإنسانية.


المشكلة أنه بعد الحرب العالمية الثانية كف الغرب عن مقاتلة بعضهم بعضا ، ولكنهم لم يكفوا عن التقاتل على أرض مختلفة . أرضنا نحن . البلدان المتخلفة . بمثابة حروب بالوكالة . أكثر من 200 حرب كان أطراف الصراع فيها دول متخلفة أو جماعات متعصبة تستنزف مواردها بشراء السلاح من الغرب الذي يقف خلف الكواليس يحرك الأحداث دون أن تسيل نقطة دم واحدة من افراد شعبه.


ولكن الاقتصادي البريطاني "جون كينز" كان يؤكد على أن النظام الرأسمالي لو ترك وحيدا يدير الأسواق وطرق الإنتاج فسيؤدي إلى خلل وظلم طبقي واحتكار، وتلويث للبيئة وتجاهل لمعاناة الفقراء الذين لا يظهرون في خريطة أولوياته.


وهنا بدأت الدول الصناعية الكبرى في التنبه لوجوب تبني طريقا ثالثا يميل إلى العدل الاجتماعي ومراعاة الفقراء والتخفيف من شراسة التنافس الرأسمالي بين الدول الكبرى لأنه تقريبا 50% من سكان العالم يعاني أعراضا جانبية من الفقر والتلوث والتهميش وسوء الرعاية الصحية ونقص الغذاء.


بينما مصانع السلاح وإنتاج السيارات الفارهة وشركات بناء المنتجعات والقصور والطائرات الخاصة لا تكف عن مساعدة الأثرياء على حياة أفضل.


وتم عقد مؤتمر كبير برعاية توني بلير رئيس وزراء بريطانيا عام 1997 وحضرته الدول الصناعية السبع الكبرى، لمناقشة آثار الرأسمالية العالمية على الفقراء لمحاولة تبني طريقا ثالثا أكثر إنسانية.


ولكن مهما فعلت تلك الدول فلا تطالب أن يكونوا هم الحكم والخصم في ذات الوقت . بعض آراء فلاسفة اليونان كانت تقول أن الأصل في الإنسان التعدي والجور والظلم . ويجب أن يواجه هذا الظلم بظلم مماثل حتى يتم التعادل في منطقة وسط يتحقق فيها العدل . توازن القوى هو الذي يحقق السلام . والله تحدث عن دفع الناس بعضهم ببعض.


في ظل هذا الصخب ، لازلت مصر أن النظرية الاقتصادية والاجتماعية النابعة من "روح الإسلام ومقاصده" دون التقيد بالنصوص بشكل حرفي، هي الحل الوحيد لمقاومة ظلم الإنسان وسوء استغلاله للموارد، وإصلاح التفاوت الطبقي الصارخ والقهر الاجتماعي. وهو أيضا الذي يحمي المجتمعات الرأسمالية من الانتحار النفسي والأخلاقي.


لقد اكتفينا من ديننا بالإكثار من الصلاة على النبي . بينما النبي يتألم في قبره . لأنه ظل يقاوم سادة قريش ليعطي للناس حريتهم في العقيدة وحقهم في الثروة والمساواة أمام القانون . قضيته كانت الانتصار لهؤلاء المهمشين على جانب الحياة.


لو بعث رسول الله لذهب لأم عزة يجلس جوارها يسمع مشاكلها بدلا من ركوب سيارة مرسيدس واصطحاب طاقم حراسة يحمل سلاحا أمريكيا متطورا . وبدلا من أن يعتبر نفسه خليفة أو ملكا أو سلطانا .. إنه مصلح وملهم وهكذا دعوته.


نعم يجب أن يحمي الحاكم نفسه من المؤامرات والعدوان وأن يركب سيارة مصفحة . هذا ضروري في البلدان الحديثة . ولكن احكموا باسم أنفسكم وليس باسم دين محمد.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق