في كتاب المغازي من صحيح البخاري يروي الصحابي سلمة ابن الاكوع أن الرسول في خيبر وجد الصحابة يوقدون النار على لحم الحمر الإنسية في قدر من فخار . فقال لهم الرسول أريقوها واكسروا الآنية.
لاحظي ياريم . الرسول وجدهم يجهزون طعاما معدا من لحم الحمير ، فأمرهم بإلقائها في الأرض وكسر الأوعية التي يستخدموها في الطهو . الأمر مباشر وواضح وجاد . فيجب الالتزام الفوري به ....
ولكن عمر بن الخطاب توقف قليلا و اقترح شيئا آخر ، فقال : نغسل القدور يا رسول الله بدلا من كسرها .. هنا أعاد الرسول التفكير في الأمر لوهلة و اقتنع، فغير قراره، وقال : لا بأس . اغسلوها بدلا من أن تكسروها.
لماذا لم يلتزم عمر بالأمر المباشر للرسول يا ريم ؟ لماذا يحاوره ويطرح عليه بدائل أفضل ؟ بل يقتنع الرسول باقتراح عمر ويقره .
عمر يا ريم يفرق بين وصايا الرسول التي تتعلق بالوحي الرسالي الملزم لنا والذي لا فكاك منه ، وبين أوامر دنيوية قائمة على الاجتهاد البشري للرسول والتي يبتغي منها تحقيق المصلحة وليس الالتزام الحرفي .
الرسول كان يرى أن لحم الحمير قد لوثت القدر ، وهو يخاف على أصحابه من المرض ، لذلك قال بكسرها ، ولكن عمر رأى أنهم في غزو ولا يملكون غير هذا القدر ، وأن الغسل يقوم بالغرض المنشود .
كسر القدر ليس مستهدفا في ذاته . ولكن هناك مقصدا من وراءه . ولو تحقق المقصد بطريقة مختلفة وبتكلفة أقل فتلك الطريقة تكون هي الأمثل . ولذلك لم يكسروا القدر .
البعض ياريم يصر على كسر القدر حتى لو لم يكن الرسول يصر على ذلك . ولو أن بعضهم عاش في عهد الرسول لاتهم عمر بن الخطاب بالتباطؤ في تنفيذ أوامر الرسول .
الإسلام يدربنا على الحوار وتبادل وجهات النظر وعدم التضييق على الناس بألفاظ بعينها ، وأن الحق هو ابن هذا النقاش الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة . والأخذ والترك قائم حتى في كلام الرسول الدنيوي .
لذلك تم تصنيف هذا الحديث وغيره تحت باب : جواز اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام .. وهمه بالشيء وعدم فعله له .
*
يدعم ذلك ما رواه مسلم في كتاب النكاح عن جواز الغيلة .
والغيلة هي أن يعاشر الرجل زوجته المرضع ، وكان العرب يظنون أن في ذلك خطرا على المرأة وأنه يؤذي لبنها ومن ثم يؤذي رضيعها.
وكاد الرسول أن ينهى عن نكاح الغيلة ، لما اعتقدته العرب ، ولكنه نظر في الروم وفارس فوجدهم يغيلون ولا يؤذي ذلك أولادهم ، فعدل عن قراره .
الحديث فيه نتائج مهمة ياريم .
أولا ، الرسول كاد أن ينهى عن شيء ليس امتثالا لأمرسماوي ، ولكن لما اعتقده الناس من غلبة الضرر.. فكان تشريع الرسول ابن المجتمع الذي يعيش فيه وتقنينا لعرفه. ثم عدل عن قراره ليس امتثالا لأمر سماوي أيضا ، ولكن لبحثه عن الصواب لدى شعوب أخرى أكثر خبرة.
ولم ينتظر الرسول جبريل بالوحي يخبره بالصواب والخطأ ، وما أسهل ذلك ، ولكنه لجأ لعلوم بشرية .. وبذلك فالرسول يكرس لتشريع الإنسان القائم على العقل والتجربة وتلمس المصلحة إلى جوار تشريعات السماء.
ثانيا ، في مسائل الدنيا يترك النص المقدس مساحة واسعة لخبرة الإنسان من علم وتجربة وتراكمية .
ثالثا ، الانفتاح على كافة الثقافات دون عوائق ودون حرج .
رابعا ، المعيار للفكرة وليس للشخص. فالرسول العظيم تخلى عن قراره ، وهو من هو ، من أجل ظهور فكرة أفضل.
تشريعات الإنسان هي جزء من قوانين الله يا ريم . لو أدت للحفاظ على الحياة وأصلحت بين الناس .. ولكن قليلا من الناس يفقهون .
*
تجرعين من كوب الماء أمامك وتنظرين لي في حذر .. تقولين أن هذا الكلام يجلب الكثير من المشاكل لأنه يؤلب الناس لإعادة التفكير في دينهم بشكل يحملهم مسؤولية أكبر . والناس تركن إلى السهل .
بالمناسبة يا ريم كوب الماء الذي تشربيه هذا يأتيك من خارج مصر ..تحديدا من بحيرة فكتوريا ، في أوغاندا ، عبر النيل الأبيض . أو من هضبة الحبشة الأثيوبية عبرالنيل الأزرق ، واللذان يصبان في منبع واحد يمثل المصدر الرئيس لنهرالنيل.
أريد فقط أن أسحبك من التراث إلى الواقع . ومن النظرية إلى الحياة . ومن الاختلافات الأيدولوجية إلى كوب ماء لا شائبة فيه .
تخيلي يا ريم أن الماء الذي نشربه لا نتحكم فيه . بل يأتينا من خارج الحدود . وتتحكم فيه بلدان أفريقية ذات ثقافة ودين ولغة مختلفة . بل يغلب عليها الدين المسيحي والثقافة المخاصمة للعروبة . يجب أن ندرك أننا لسنا وحدنا في العالم . وأن التوازنات تحكم كل شيء .
الرسول غير رأيه في أشياء لمجرد نقاش مع رجل . وعدل عن أحكام تشريعية نظرا لخبرات قادمة من الرومان والفرس غير المسلمين . يجب أن نقرأ التراث جيدا بعين ناقدة وفاهمة للمقاصد الكبرى دون التلكؤ في التفاصيل والتفاهات والمرحليات ، ويجب أن تصالح مع الجميع لنشرب الماء القادم من أرضهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق