محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

الجمعة، 22 مارس 2013

لا تكسروا القِدر

 

في كتاب المغازي من صحيح البخاري يروي الصحابي سلمة ابن الاكوع أن الرسول في خيبر وجد الصحابة يوقدون النار على لحم الحمر الإنسية في قدر من فخار . فقال لهم الرسول أريقوها واكسروا الآنية.

لاحظي ياريم . الرسول وجدهم يجهزون طعاما معدا من لحم الحمير ، فأمرهم بإلقائها في الأرض وكسر الأوعية التي يستخدموها في الطهو . الأمر مباشر وواضح وجاد . فيجب الالتزام الفوري به ...
.

ولكن عمر بن الخطاب توقف قليلا و اقترح شيئا آخر ، فقال : نغسل القدور يا رسول الله بدلا من كسرها .. هنا أعاد الرسول التفكير في الأمر لوهلة و اقتنع، فغير قراره، وقال : لا بأس . اغسلوها بدلا من أن تكسروها.

لماذا لم يلتزم عمر بالأمر المباشر للرسول يا ريم ؟ لماذا يحاوره ويطرح عليه بدائل أفضل ؟ بل يقتنع الرسول باقتراح عمر ويقره .

عمر يا ريم يفرق بين وصايا الرسول التي تتعلق بالوحي الرسالي الملزم لنا والذي لا فكاك منه ، وبين أوامر دنيوية قائمة على الاجتهاد البشري للرسول والتي يبتغي منها تحقيق المصلحة وليس الالتزام الحرفي .

الرسول كان يرى أن لحم الحمير قد لوثت القدر ، وهو يخاف على أصحابه من المرض ، لذلك قال بكسرها ، ولكن عمر رأى أنهم في غزو ولا يملكون غير هذا القدر ، وأن الغسل يقوم بالغرض المنشود .

كسر القدر ليس مستهدفا في ذاته . ولكن هناك مقصدا من وراءه . ولو تحقق المقصد بطريقة مختلفة وبتكلفة أقل فتلك الطريقة تكون هي الأمثل . ولذلك لم يكسروا القدر .

البعض ياريم يصر على كسر القدر حتى لو لم يكن الرسول يصر على ذلك . ولو أن بعضهم عاش في عهد الرسول لاتهم عمر بن الخطاب بالتباطؤ في تنفيذ أوامر الرسول .

الإسلام يدربنا على الحوار وتبادل وجهات النظر وعدم التضييق على الناس بألفاظ بعينها ، وأن الحق هو ابن هذا النقاش الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة . والأخذ والترك قائم حتى في كلام الرسول الدنيوي .

لذلك تم تصنيف هذا الحديث وغيره تحت باب : جواز اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام .. وهمه بالشيء وعدم فعله له .

*

يدعم ذلك ما رواه مسلم في كتاب النكاح عن جواز الغيلة .

والغيلة هي أن يعاشر الرجل زوجته المرضع ، وكان العرب يظنون أن في ذلك خطرا على المرأة وأنه يؤذي لبنها ومن ثم يؤذي رضيعها.

وكاد الرسول أن ينهى عن نكاح الغيلة ، لما اعتقدته العرب ، ولكنه نظر في الروم وفارس فوجدهم يغيلون ولا يؤذي ذلك أولادهم ، فعدل عن قراره .

الحديث فيه نتائج مهمة ياريم .

أولا ، الرسول كاد أن ينهى عن شيء ليس امتثالا لأمرسماوي ، ولكن لما اعتقده الناس من غلبة الضرر.. فكان تشريع الرسول ابن المجتمع الذي يعيش فيه وتقنينا لعرفه. ثم عدل عن قراره ليس امتثالا لأمر سماوي أيضا ، ولكن لبحثه عن الصواب لدى شعوب أخرى أكثر خبرة.

ولم ينتظر الرسول جبريل بالوحي يخبره بالصواب والخطأ ، وما أسهل ذلك ، ولكنه لجأ لعلوم بشرية .. وبذلك فالرسول يكرس لتشريع الإنسان القائم على العقل والتجربة وتلمس المصلحة إلى جوار تشريعات السماء.

ثانيا ، في مسائل الدنيا يترك النص المقدس مساحة واسعة لخبرة الإنسان من علم وتجربة وتراكمية .

ثالثا ، الانفتاح على كافة الثقافات دون عوائق ودون حرج .

رابعا ، المعيار للفكرة وليس للشخص. فالرسول العظيم تخلى عن قراره ، وهو من هو ، من أجل ظهور فكرة أفضل.

تشريعات الإنسان هي جزء من قوانين الله يا ريم . لو أدت للحفاظ على الحياة وأصلحت بين الناس .. ولكن قليلا من الناس يفقهون .

*
تجرعين من كوب الماء أمامك وتنظرين لي في حذر .. تقولين أن هذا الكلام يجلب الكثير من المشاكل لأنه يؤلب الناس لإعادة التفكير في دينهم بشكل يحملهم مسؤولية أكبر . والناس تركن إلى السهل .

بالمناسبة يا ريم كوب الماء الذي تشربيه هذا يأتيك من خارج مصر ..تحديدا من بحيرة فكتوريا ، في أوغاندا ، عبر النيل الأبيض . أو من هضبة الحبشة الأثيوبية عبرالنيل الأزرق ، واللذان يصبان في منبع واحد يمثل المصدر الرئيس لنهرالنيل.

أريد فقط أن أسحبك من التراث إلى الواقع . ومن النظرية إلى الحياة . ومن الاختلافات الأيدولوجية إلى كوب ماء لا شائبة فيه .

تخيلي يا ريم أن الماء الذي نشربه لا نتحكم فيه . بل يأتينا من خارج الحدود . وتتحكم فيه بلدان أفريقية ذات ثقافة ودين ولغة مختلفة . بل يغلب عليها الدين المسيحي والثقافة المخاصمة للعروبة . يجب أن ندرك أننا لسنا وحدنا في العالم . وأن التوازنات تحكم كل شيء .

الرسول غير رأيه في أشياء لمجرد نقاش مع رجل . وعدل عن أحكام تشريعية نظرا لخبرات قادمة من الرومان والفرس غير المسلمين . يجب أن نقرأ التراث جيدا بعين ناقدة وفاهمة للمقاصد الكبرى دون التلكؤ في التفاصيل والتفاهات والمرحليات ، ويجب أن تصالح مع الجميع لنشرب الماء القادم من أرضهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق