محمد الدويك

صورتي
Egypt
حينما ولدت حاولوا تعليمي المشي والكلام وآداب الطعام وفنون التعامل اللائق مع الناس . ولكن أحدا لم يعلمني كيف أفكر وأن أصل الى الحق , بالبحث والتجربة والملاحظة والوصول الى نتيجة . وكأن العلم حرام .. وكأن تجربة نبي الله ابراهيم ركام علاه الغبار فلا أمل في بعثه من جديد . فلنتحرر قليلا مما غرس بدواخلنا من آثام وخطايا .. ونبذل محاولة أخرى للفهم . فالله وضع العقل بنسب متفاوتة في خلقه , ولكنه ألقى رسالاته وعقد تكليفاته على أكثر الكائنات اكتمالا للعقل . الكائن الوحيد الذي استطاع تدوين تاريخه ونقله لمن بعده . فالفاهمون هم المخاطبون بالوحي .. وهم اصحاب العقول الذين ننشدهم هنا .

السبت، 23 مارس 2013

تفاحة وعبدو .. ونوبل في الاقتصاد

عندما كنت مراهقا كان الطبيب لا يكف أن يذكرني بمشكلة شرايين القلب.
...

اضطررت مرة لزيارته لفحوص روتينيه مطلوبة، وعندما أحكم الأسلاك الموصلة بكلبسات مثبتة بجيل لزج حول صدري وأطراف يدي وقدمي، أخرج رسام القلب (Electro Cardio Graph) نتيجة مؤداها أن لدي مشكلة مزمنة بشريان القلب الرئيس الذي يغذيه بالدم.

لم أنتبه لكلام الطبيب ولم آخذه موضع الجد. وظللت أمارس الرياضات العنيفة وأتناول الطعام الدسم. أضحك بقوة وأبكي بحرقة.. أندهش وأحزن وأنام ملئ عيناي.. إنه قلبي أنا، وأنا أكثر من يعرفه، فماذا يعرف هذا الطبيب الأحمق عنه، إنه لم يراه سوى دقائق.

لقد حملته معي سنوات النشأة والتكوين، وخبأت داخله كل أسراري الخاصة؛ مشاعري وهمومي ومخاوفي التي لا تبدوا في العلن. ولكن وقت الأحزان تضطرب نبضاته قليلا فأتذكر طبيبا أحمقا وجهازا ملفوفا حول صدري.

لا يهم، الشاعر يقول:

وكم من صحيح مات من غير علة . . وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من فتى يصبح ويمسي ضاحكا . . وقد نُسِجت أكفانه وهو لا يدري

*
أثناء عودتي اليوم، قابلت تفاحة وعبدو.. تفاحة تبيع الأذكار وعبدو يبيع المناديل.. طفلان متسولان يمران عليك كل يوم ولا تنتبه لهما.. من كثرة النصب في حياتنا اليومية صرنا نشك في أي شيء. ولكن وجه تفاحة كان ملفتا. إنها مهذبة وغير لحوحة وعيناها تنبضان بالحزن والكبرياء.

تعرض عليك مرة ثم تغادرك سريعا دون أن تلحظها، كنسمة عابرة في حر أغسطس.

كنت أقرأ في كتاب كبير للدكتور محمد يونس، الاقتصادي البنجالي الحائز على نوبل، والذي صنع أول بنك للفقراء في العالم. والذي ساهمت تجربته في خفض معدل الفقر في بنجلادش بنسبة تصل إلى 50% ووفر عملا لحوالي 7 مليون إمرأة فقيرة ومساكن لقرابة 600 ألف أسرة.

البنوك لا تتعامل إلا مع الأثرياء، ليزدادوا ثراءا. تقدم لهم القروض والتمويلات وتسهيلات الدفع. لتحولهم من مرحلة الملايين إلى مرحلة المليارات. وحال التعثر تستطيع أن تستقل طائرة وتهرب لتعيش رغيدا في أحد جزر الكاريبي كملك. ثم تساومهم على الدفع.

بينما لو كنت فقيرا فاعرف أنك ستبيع المنزل اللي حيلتك، أو ستدخل السجن، وستهان زوجتك في عمل المنازل لتسدد قيمة الـ 5 آلاف جنيه. هذا نموذج عالمي بالمناسبة ولا علاقة له بمصر فقط. إنه الوجه الخشن للرأسمالية.

الرأسمالية عمرت الأرض، ما من شك، وصنعت التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة وقدمت معامل البحث العلمي. ولكنها في ذات الوقت أساءت توزيع أرباحها على العالم بالتساوي، وبما يكفل العدل والتراحم. تقول لنا تقارير التنمية الدولية أن 93% من الدخل العالمي يستمتع به نصف سكان الأرض. بينما الفتات للنصف الآخر.

الرأسمالية حولت العالم إلى سوبر ماركت ضخم. وعرضت السلع بشكل مغر يجعلك لا تقاومه. أنت لا تحتاج إلى كل تلك السلع ولكن الإعلانات التجارية ستقنعك أنك تحتاج لها. وستربط بين مستواك الحضاري وبين استهلاكك لتلك الأشياء وقوتك الشرائية في جلبها.

المرحلة التالية هي أن تدخل دائرة لا تنتهي من الاستهلاك وتنامي الاحتياجات، فتصير حياتك مستحيلة من دون تلك الأدوات الرفاهية، التي هي في الأساس زائدة عن الحاجة.

ثم تصاب بظمأ لا ري له من الاستهلاك. إنهم يستعينون بخبراء علم النفس والاجتماع والتسويق لصنع تلك الإعلانات. ثم تقوم العولمة بدورها بعد ذلك؛ حيث تعبث بثقافتنا الوطنية والقومية لكسر الحواجز بين الدول، ويصير النمط الاستهلاكي في الدول الغربية هو النموذج الأمثل في كل مكان.

رغم أن هذه الدول هي المنتجة وهي المستفيدة، بينما نحن مجرد أسواق تحقق لهم مكاسب إضافية.

قديما كان البيت المصري لا يوجد فيه سوى الجبن القريش. أو جبن قريش ممذوج بملح وفلفل حار ليصير مش. أفضل الظروف أن يكون هناك جبن قديم براميلي. وكان الكل يأكل ويشبع ويعمل ولا يكتئب، ويحسن معاملة غيره.. الآن لو دخلت هايبر ماركت لتشتري نصف كيلو جبن. ستخرج ومعك 10 كيلو جبن، وأشياء آخرى.

الدكتور محمد يونس أثناء نزوله من بيته وذهابه لتدريس الاقتصاد في الصباح في جامعة دكار، وجد امرأة على قارعة الطريق تجادل رجلا فظا لتقترض منه دولارا واحدا. وقف واستفسر عن الأمر. فحكت له المرأة أنها تقترض منه دولارا لتشتري الخوص لتصنع منه سلال البامبو لتبعها بعد ذلك. ولكن هذا الرجل، في مقابل القرض، يجبرها على أن تبيع له حصريا وبسعر بخس كل إنتاجها.

أخرج الدكتور يونس من جيبه دولارا وأعطاه للمرأة فابتهجت وشعرت أن كل مشاكلها في الحياة قد انتهت! هي حرة منذ اللحظة.

وأثناء عودته بحث عنها وسمع منها أكثر، وعرف أن هناك 42 سيدة في المنطقة لديهن ذات المعاناة، وأن مجموع ما يحتاجوه هو 27 دولارا فقط. وأنهم يخضعون لعبودية قسرية لمقرضين يستغلونهم.

ومنذ تلك اللحظة شعر الدكتور يونس بسخف كل النظريات الاقتصادية التي يدرسها لتلامذته في الجامعة. ما قيمة كل هذا التقعر طالما هناك سيدات كهؤلاء مستعبدات من أجل دولار أو بضعة دولارات!

ومن هنا جاءته فكرة بنك يقرض الفقراء فقط. حاول في البداية أن يقنع بعض البنوك المحلية أن تقوم بالدور، ولكنهم سخروا منه لأن القاعدة التي يعرفها أي طالب بالفرقة الأولى أن الجدارة الإئتمانية للمقترض هي الأساس، وهؤلاء النسوة معدومات ولا توجد لديهن أي ضمانات سداد.

أخذ الفكرة وكافح فيها سنوات. وأنشأ بنك جرامين. الذي أسهم في خفض معدلات الفقر في بنجلادش، وصار أحد أشهر البنوك في العالم. ومن هنا تم اختياره لنوبل.

وأثناء ذهابه لنيل الجائزة أخذ معه عينة من هاته النسوة المعدومات. واللاتي يعانين من الوجه القبيح للفقر والرأسمالية الاستهلاكية. ليقول للعالم أنه من أجل هؤلاء يجب أن يكون كفاحنا.

وقف في ستكهولهم حيث أغنى عواصم العالم والسادة المتأنقين، ليبرز لهم النصف الثاني من العالم والذي يظهر كمجرد رقم إجمالي في مقررات الإحصاء. بينما كل رقم منه يمثل إنسانا يمرض ويجوع ويعاني، ويموت من الذل.

الإسلام هو الحل.. نعم، إسلام الإنسان القائم على التكافل والتراحم والعمل والعدل.

الإسلام الذي جاءنا بنموذج أن لو جاءك محتاج وليس في بيتك غير نصف رغيف خبز فاقسمه بينك وبينه. الإسلام الذي لم يجعل الصدقة منة أو عطاءا. بل حق. وجعل كنزها من موجبات العذاب حتى لو عبدت الله ووحدته.

وجعل الرجل ينفق الدرهم وهو لا يملك إلا الدرهمين. اي ينفق نصف ماله. من منا الآن يقدر على أن ينفق نصف ماله أيها المسلمون.

الإسلام جاء لتهذيب نفوسنا من الجشع والطمع والأنانية، ولذلك نستطيع مقاومة ثقافة الإستهلاك الكبير mass high consumption ، ونستطيع مقاومة عواصف العولمة. ولذلك جعل الله إنسان الإسلام هو المستخلف والذي يجب أن يسعى لأن يكون متمكنا. لأنه لو امتلك الثروة أحسن توزيعها على الجميع بدلا من أن يغدق على نصف ويقتر على النصف الآخر.

لو قمنا بنموذج محمد يونس في مصر. أول شيء سيصدر هو فتوى تحرم البنوك! البنوك أصلا حرام!!


*
أغلقت الكتاب ونظرت إلى تفاحة وعبدو.. تحدثت معهما بضع دقائق.. تفاحة 10 سنين وعبدو 11 سنة. تسربا من التعليم، كالعادة، لتزداد الأمية في مصر رقما إضافيا. أبوهما هارب كعادة الرجال عندما تحبط. وأمهما تعمل خادمة. وهما يسرحان طيلة اليوم ويعودان ليناما كقطعة حجر صماء.. وغد يوم آخر.

أنظر إليهما في حسرة.. ما ذنبهما؟ ستحلم تفاحة يوما أن تحمل كتابا وكشكول وتعقص شعرها وتلبس جيب كحلي وتذهب للمدرسة الثانوي، عندما تمر من هناك لتتسول، وستحلم بملابس جديدة للذهاب للجامعة، عندما تقف أمام بابها تستجدي ولد وبنت خرجا متجاورين يتأهبان لقصة حب طاهرة كورق الشجر ونقية كحبات الندى.

تفاحة حتما بعد عشر سنين ستتزوج من بلطجي أو تاجر مخدرات أو متسول مثلها. حتمًا لن يتقدم لها شريف طالب الهندسة ابن اللواء اسماعيل الألفي. وغالبا ستكون حياتها دائرة أخرى من العذاب والقهر. هذا لو كان حظها طيب ولم تتحول إلى عاهرة تبيع شرفها لسائقي التوكتوك بمبلغ زهيد، أو يغتصبوها ولا يدفعون.

هذه اشياء تحدث في مصر سيدي المحترم الذي تقرأ عبر بلاك بيري أو آي فون 4s وتشعر بالحنق لأنك لم تشتر آي فون5 بعد.

لو أن تجربة الحكم في مصر استطاعت أن تنقذ تفاحة من مصيرها الذي ينتظرها فهي فعلا تجربة اسلامية، وإلا فهي مجرد صراع سلطوي عفن يبحث عن إرضاء شهوات النفس من سطوة واستمتاع.

الغريب أن المشاجرة المنصوبة الآن بين حزب النور صاحب شعار "قرآن وسنة بفهم سلف الأمة" وبين الاخوان "الإسلام هو الحل" ، سببها الرئيسي هو صراع نفوذ ومصالح وقتال شرس على المناصب. الرئاسة أقالت أحد رجال الدعوة السلفية بدعوى التربح واستغلال النفوذ، فبكى الرجل، وفتحت الدعوة السلفية نيران المدفعية الثقيلة تجاه القصر. رغم أن السلفيون سكتوا على القتل والسحل وإهانة الكرامة والسرقة والاستبداد، ولم نر دموع أحد رجالها تنزل إلا عندما فقد كرسيه الاستشاري في القصر.

لو أن أحدهم نزل إلى الشارع وتحدث مع تفاحة فهو هنا فقط قد بدأ يؤمن بالإسلام. وأما ما دون ذلك فهو مجرد صراع سلطة لإرضاء غرور النفس ونزواتها، والدين في برنامجهم أحد وسائل التمويه والخداع.

لن أشعر بالندم عندما أختم بآية، ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )

*
عموما وجه تفاحة سيعطي قلبي الواهن عمرا إضافيا.. إصرارا على الحياة، وكفاحا لن يهدأ وعزيمة لن تكل إلا لو خففت معاناتها.

شكرا تفاحة. سأعيش من أجلك يا فتاتي.

هناك تعليق واحد: